كأنه زلزال ضرب المجتمع الأمريكي، تقاليده الجامعية التي أسست نهضته، ضميره العام وتضامنه الإنساني مع الضحايا في حده الأدنى.

بطلب من رئيسة جامعة كولومبيا “نعمت شفيق”، التي تنحدر من مدينة الإسكندرية، وتشتهر في الأوساط الأكاديمية والمصرفية الدولية باسم “مينوش”، اقتحمت قوات شرطة نيويورك حرم الجامعة العريقة؛ لفض اعتصام طلابي، يتضامن مع غزة مدينا ما تتعرض له من إبادة جماعية وتجويع منهجي.

اعتقلت الشرطة أكثر من مائة طالب، وأوقفت إدارة الجامعة ستة طلاب عن الدراسة، بما قد يهدد مستقبلهم.

بدت جامعة كولومبيا ثكنة عسكرية.

لم يكن الاحتجاج الطلابي على حرب الإبادة في غزة مفاجئا، أو خارج أي سياق.

بالمكان نفسه الذي شهد ستينيات وسبعينيات القرن الماضي اعتصامات احتجاجية على وحشية حرب فيتنام، نصبت خيام تتضامن مع غزة، ضد وحشية القوة الإسرائيلية.

كرد فعل على القمع الأمني والإداري ارتفع منسوب الغضب وشمل جامعات النخبة الأمريكية كلها.

كان ذلك تحولا نوعيا في مستوى التضامن مع القضية الفلسطينية وتراجعا فادحا في صورة إسرائيل وأوزانها بالمجتمع الأمريكي.

بقوة الصور المروعة منقولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، استقطبت المعاناة الفلسطينية المشاعر الإنسانية باتساع العالم.

اجتاحت المظاهرات الاحتجاجية شوارع المدن الغربية، وداخل الولايات المتحدة نفسها.

كانت الدعوة لاعتصام مفتوح داخل مخيمات في حرم جامعة كولومبيا؛ تعبيرا عن طول نفس لفعل الاحتجاج والتضامن.

إنها نفس الجامعة التي احتضنت المفكر الفلسطيني الراحل “إدوارد سعيد” أستاذا للأدب المقارن، حيث ارتفع صوته مدويا بالحق دفاعا عن عدالة القضية الفلسطينية.

بالمفارقة، فإن مفكرا فلسطينيا آخر بنفس الجامعة “جوزيف مسعد” يتعرض الآن لمحاولة التنكيل به.

لم تكن جامعة كولومبيا وحدها، التي غضبت وقمعت.

المشهد نفسه تكرر في جامعة “ييل” حيث جرى فض اعتصام بدأت خلاله مجموعة من طلاب الدراسات العليا إضرابا عن الطعام.

جرى اقتحام مماثل، واعتقل عشرات الطلاب أمام الكاميرات.

كان ذلك عارا مزدوجا، قمع الحريات الأكاديمية والعامة، والتنكر لأية قيمة إنسانية تتضامن مع غزة.

لم تكن “مينوش” موضوع الاحتجاجات، بقدر ما كانت عنوانا لها.

تركزت الأضواء عليها، كأنها تعبر بإيحاء التركيز على أصولها المصرية عن البلد، الذي ولدت فيه وغادرته في الرابعة من عمرها بصحبة أسرتها التي هاجرت عام (1966)؛ هربا من النظام الناصري، على ما تقول.

حظرت مقدما جامعة “ستانفورد” استخدام الخيام المؤيدة للفلسطينيين أو لإسرائيل!!

بدا الهدف واضحا قمع حركات الدعم، والتأييد لغزة باسم القواعد والضوابط.

أعلنت جامعة “ميتشجان”، أنها بصدد إجراءات وسياسات جديدة تعاقب أية احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين.

هكذا بوضوح!

أوقفت جامعة جنوب كاليفورنيا اجتماعا تضامنيا مع الطلبة الموقوفين.

كان ذلك إمعانا في التعقب والحصار.

رغم ذلك كله لم ينجح القمع الأمني، ولا الإجراءات الإدارية المتعسفة، في وقف موجات الغضب، على ما يحدث في غزة.

اتسعت وعمت الاحتجاجات جامعات النخبة الأمريكية شاملة معهد “ماساتشوستس” للتكنولوجيا.

انضمت أعداد كبيرة من الأساتذة لطلابهم؛ دفاعا عن حقهم في التعبير عن أنفسهم، دون قمع أو ترهيب.

ووصلت الاحتجاجات إلى الجامعة الأمريكية في القاهرة، التي شهدت بدورها نوعا أقل من القمع مما حدث في الولايات المتحدة!

تلخصت مطالب المحتجين في وقف مستدام لإطلاق النار بغزة، ووقف آخر للمساعدات الأمريكية لإسرائيل التي تشجعها على العدوان.

كان أخطرها وأكثرها استفزازا للوبي اليهودي في الولايات المتحدة: سحب الاستثمارات من الشركات، التي تزود إسرائيل بالأسلحة والتكنولوجيا العسكرية.

في القاهرة طرح السؤال نفسه على رئاسة الجامعة دون إجابة: “أين تذهب أموالنا؟”.

اتساع الاحتجاجات ودخول المطالب الطلابية في المناطق المحظورة استدعى هجوما منسقا مضادا مركزه الكونجرس، والبيت الأبيض وبقيادة رؤساء الجامعات أنفسهم و”مينوش” في مقدمتهم.

تبنى الهجوم المضاد فرضية لم تثبت، ولا كان عليها دليل، أن هناك روحا تسري في الاعتصامات معادية للسامية.

أطلقت اتهامات في مجلس النواب بتعريض الطلبة اليهود للترهيب الجسدي والمعنوي بتبني شعارات “حماس”، ورفع الأعلام الفلسطينية.

شارك الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في الهجوم المضاد ببيان، أصدره بمناسبة عيد الفصح اليهودي، تبنى فيه فرضية “معاداة السامية”.. متعهدا “بوضع القوة الكاملة للحكومة الفيدرالية خلف حماية المجتمع اليهودي”.

في توقيته وملابساته ناقضت ادعاءات “بايدن” الوقائع الأساسية على الأرض حيث شارك طلاب يهود في الاعتصام بجامعة كولومبيا، وانضم بنفس يوم عيد الفصح طلاب يهود إلى خيام الاعتصام، التي نصبت مرة أخرى رغم القمع والاعتقال، مرددين أغان احتفالية فلكلورية باللغة العبرية.

كان ذلك نفيا عمليا لفرية “العداء للسامية”، التي أريد بها إجهاض التضامن مع غزة.

يستلفت النظر هنا، أن جماعة “أصوات يهودية من أجل السلام”، التي أسسها عالم اللغويات اليساري “ناعوم تشومسكي”، شاركت في موجة الاحتجاجات الأمريكية، منذ اليوم الأول للحرب على غزة.

حسب الصحفية الأمريكية “ميشيل جودلبيرج” في مقال كتبته بصحيفة “نيويورك تايمز”، فإن “رئيسة جامعة كولومبيا لم يكن لديها أدنى استعداد؛ لأن تلقى مصير رئيستي جامعة هارفارد وبنسلفانيا، اللتين أجبرتا على الاستقالة إثر ظهورهما أمام لجنة التعليم والقوى العاملة في الكونجرس، التي تحقق بشبهات معاداة السامية بالحرم الجامعي”.

كان تلك مكارثية مستحدثة باسم العداء للسامية هذه المرة بدلا من تهمة الانتساب إلى الشيوعية، التي جرت بهيستريا مفرطة مطلع خمسينيات القرن الماضي؛ لتعقب كل مثقف وفنان وصاحب رأي بالشبهات إذا ما كان شيوعيا أم لا؟!

تبنت “مينوش” فرضية العداء للسامية في تفسير التضامن الواسع، وغير المسبوق لطلاب الجامعة مع عدالة القضية الفلسطينية!

استدعت الجانب المظلم في التاريخ الغربي لا في تاريخنا العربي والإسلامي؛ لتتهم المتعاطفين مع الضحايا، بما ليس فيهم، متجاهلة الاتهامات الموثقة، التي تلاحق إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية.

في جلسة مجلس النواب، التي خضعت لها “مينوش”، قال نائب جمهوري أن “لعنة الرب سوف تهبط على جامعة كولومبيا”؛ بسبب العداء للسامية في حرمها الجامعي.

كان ذلك تعبيرا عن هوس تشويه حركة التضامن مع غزة وضد الحرب عليها.

بدا لافتا في تلك الجلسة المستوى الرفيع، الذي أظهرته النائبة من أصل صومالي “إلهان عمر” في استجواب “مينوش”.

حاصرتها بالأسئلة المدققة التي كشفت خواء ادعاء رئيسة الجامعة، أن هناك عداء للسامية؛ لتبديد أي شك في تعاطفها مع إسرائيل.

لم تكن مصادفة أن تكون ابنتها الطالبة في جامعة كولومبيا من ضمن الموقوفين.

افتقدت “مينوش” ذات الموقف الأخلاقي والإنساني، رغم أصلها المصري المفترض.

قالت: “تعرضت إسرائيل لهجوم وحشي من قبل إرهابيي حماس في السابع من أكتوبر، وسرعان ما أصبح واضحا، أن هذه الأحداث المروعة ستشعل الخوف، والألم في جميع أنحاء حرمنا الجامعي”!

“لا مكان لمعاداة السامية في حرمنا الجامعي وأنا شخصيا ملتزمة بكل ما في وسعي بمواجهتها بشكل مباشر”.

كان ذلك ترديدا حرفيا لما يقوله اللوبي الصهيوني، الذي لا يخفي فزعه من تدهور صورة إسرائيل داخل الأجيال الأمريكية الجديدة.

كانت الاتهامات المصرية والعربية التي أطلقت على “مينوش” كـ “خيانة القضية الفلسطينية” تزيدا لا محل له.

إنها لا تخصنا، وليست منا.

بالثقافة والانتماء والمناصب الأكاديمية والمصرفية التي تولتها في بريطانيا كعمادة كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، أو أن تكون نائبا للبنك المركزي، أو “بارونة” في مجلس اللوردات يجعل منها “مواطنة بريطانية فوق العادة”.

لم تكن مصادفة أن تكون أصغر نائب لرئيس البنك الدولي، أو أول امرأة تتولى رئاسة جامعة كولومبيا أو من ضمن أكثر الشخصيات نفوذا في العالم حسب مجلة “فوربس”.

مرة أخرى فهي “مواطنة أمريكية فوق العادة”.

لا تمت لمصر بصلة حقيقية غير موضع الميلاد؛ لكنه استخدم لإضفاء شرعية ما باسم العالم العربي والإسلامي كله، على جريمة التنكيل بالطلاب المتضامنين مع غزة.

كان هناك حرصا زائدا، أن يستبق اسمها صفة المصرية في التغطيات الصحفية والإعلامية لاقتحام جامعة كولومبيا.

بأي نظر لما يجري من تفاعلات صاخبة داخل الجامعات الأمريكية، فإن ذريعة العداء للسامية فقدت صلاحيتها في تسويغ الجرائم الإسرائيلية.

إنها ذريعة في طور الاحتضار.