عادت مرة أخرى ظاهرة انقطاع الكهرباء عن المنازل والمصانع ومؤسسات العمل، فعقب شهر رمضان عاد موسم خفض التيار الكهربي، وقد جرت عملية تنظيم انقطاع التيار، بحيث تتم لفترات محددة كل يوم، وبالتتابع بين المناطق المختلفة على مستوى الجمهورية.
ماذا جرى؟ أين فوائض الغاز؟ أين الآبار التي ذكرت، أنها تكفي الأجيال القادمة؟ أين الاكتشافات الضخمة التي قيل، إنها تكفي البلاد، وسيُصدر منها للخارج؟ أين الوعود بأن تكون مصر مركزا للغاز المسال؟ ما هي حقيقة ما قيل عن حقل ظهر السحري الذي سيحول البلاد إلى كنز، وحقول شرق المتوسط التي جرى العمل؛ لتقسيم ثرواتها بين قبرص واليونان نكاية في تركيا؟ بل أين وعد الرئيس السيسي في 18يناير 2018، بأننا “نسعى لنكون جسرًا لنقل الكهرباء إلى أوروبا وآسيا وإفريقيا؟ أين تصريحات المسئولين المتكررة التي شنفت آذان القابعين والمنتظرين للآمال العريضة؛ لأن تكون مصر مركزًا إقليميا للنقل والتوزيع والإسالة والتداول والتخزين والتجارة، وغيرها من التعبيرات الرنانة والمنمقة؟ وأين الحديث عن أن احتياطي مصر من الغاز يصل إلى 2,1 تريليون متر مكعب، ما يجعلها الثالثة على مستوى القارة الإفريقية؟ أين كل ذلك؟
لقد اكتشِف حقل ظهر عام 2015، وبدأ منه الإنتاج في ديسمبر 2017، وقتئذ قيل إن الحقل به احتياطي ضخم قدره 30 تريليون قدم مكعب، وبحساب بسيط بأن ما تحتاجه مصر لتشغيل محطات الكهرباء هو 6 مليارات قدم مكعب يوميا، إذن فإن الحقل حسب الأرقام التي أعلنت وقتئذ سيكفي البلاد، لو لم يكن هناك مصدر أو موقع آخر لتوليد للكهرباء في ربوع مصر إلى 5 سنوات. على أن الواقع ثبت وفق بيانات وزارة البترول، أن الحقل تراجع إنتاجه بنسبة 11% ما بين عامي 21 /2022 و22 /2023، بسبب وجود مشاكل تقنية.
أن أكبر ما يمكن أن يعاني منه أي نظام سياسي هو أن يخلق للناس آمالا عريضة، ثم يهوي بهم إلى مكان سحيق. ما يسمى في علم السياسة ثورة التوقعات المتزايدة، أخطر ما تسفر عنه هو ثورة إحباطات متزايدة. ويمكن قياس ذلك على ما يقال بشأن الغاز، وهو المصدر الرئيس لمحطات توليد الكهرباء. بالطبع استعيض عن الغاز بالمازوت؛ لتشغيل تلك المحطات، لكن أدرك الناس أيضا أن هذا المصدر للطاقة هو الآخر يحتاج إلى ملايين الدولارات لتوافره، وأنى للنظام السياسي أن يوفر مصادر العملة الأجنبية للحصول على هذا أو ذاك، بعدما تضخمت المديونية الخارجية إلى أقصى درجة ممكنة، حيث تجاوزت بكثير الـ 165 مليار دولار بعد حساب خدمة الدين عام 2024، وكذلك القرضين الجديدين مطلع هذا العام لكل من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي.
عدم انقطاع الكهرباء عن أسرة فقيرة- نتيجة شح الغاز على أرض الواقع- أفضل من إقامة البرج الأيقوني في العاصمة الإدارية، وأفضل من بناء العلمين الجديدة، وأفضل من بناء أكبر مسجد وأكبر كنيسة وأكبر ساري علم، فما بالنا بنتائج قطع الكهرباء عن المصانع أو المستشفيات أو البنوك ومؤسسات العمل والإنتاج والمنازل… إلخ. لقد صرف المال على أمور لا تستحق- في نظر البعض- مجرد الذكر، حيث فقدنا فقه الأولويات، وركضنا خلف المظهر الإعلامي، والصيت والشهرة، وركنا إلى إهمال دراسات الجدوى والتعامل بوجود البركة، والتنفيذ بالأمر المباشر بقانون ملزم، صادر عن مجلس نواب القوائم المطلقة. والأهم من كل ذلك عدم قدرة أي مسئول سياسي أو إداري أو تنفيذي أو حتى برلماني، أن ينطق ببنت شفة، ليقول رأيا مخالفا عن أي من تلك الأمور؛ خشية أن يتعرض للسخط أو البطش أو التنكيل به إعلاميا وربما أمنيا. يكفينا هنا الإشارة، إلى أننا أنشأنا محورا وطرقا ومونوريل بـتريليوني جنيه، حسبما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في احتفال عيد الشرطة العام 2023، أي ما يقدر بثلث حجم الدين الخارجي، صحيح أن تلك الوسائل الاتصالية نقلت مصر نقلة مهمة في عالم المواصلات، إلا أنها كانت مبالغ فيها، وجاءت على حساب الكثير من الأمور، ومنها لا شك توفير الموارد الكافية؛ لتشغيل محطات توليد الكهرباء، التي كانت دوما كغيرها من أمور، يعلق نكباتها على أمور خارجية أو خارج الإرادة، ككوفيد 19 أو حرب روسيا وأوكرانيا أو حرب غزة.
المؤكد أن هناك أمورا كثيرة؛ سببت الانقطاع المتوالي للكهرباء، منذ صيف عام 2023، ما أدى إلى تخفيف الأحمال، ثم ما لبثت أن تحسنت الأمور عدة أسابيع، وعادت مرة أخرى سياسة تخفيف الأحمال.
واحد من الأمور المسببة عادة لانقطاع التيار الكهربي الأعطال في محطات التوليد، أو محطات التحول الفرعية، أو خطوط النقل أو خطوط التوزيع؛ بسبب أية حوادث طبيعية أو بشرية كالتخريب، وهو أمر غير قائم في مصر. وربما كان الانقطاع بغرض الصيانة، وهو أمر يمكن أن يخطط له بما لا يضر بالمستهلكين، حيث يتم إبلاغهم بشكل مسبق لأخذ الحيطة. وربما كان الانقطاع؛ بسبب تذبذب الأحمال بالرفع أو الخفض، وهو ما تسبب فيه إدخال مشتركين جدد لساحة الاستهلاك، خاصة مع دخول العاصمة الإدارية مجال العمل، ما جعل الزيادة تقدر بنحو 10%. وأخيرا، فإن الانقطاع قد يكون؛ بسبب نقص الموارد. وهذا الأمر تحديدا يعتقد أنه هو السبب الرئيس، والأهم ضمن كافة تلك الأسباب.
لقد سعت الحكومة لتلافي السخط العام قدر الإمكان، حتى لا يحدث ضرر بشبكة الكهرباء؛ نتيجة الاستهلاك، خاصة وقت الصيف حيث الحرارة الشديدة، كما سعت ألا يسفر النقص في الغاز أو المازوت، وهما العنصران الرئيسيان المشغلان للمولدات في حدوث ظلام دامس. لكن ما من شك أن الضرر وقع، وتسبب خفض الأحمال في تأثر خدمات رفع المياه للمنازل والمصانع ووسائل النقل والهواتف النقالة والإنترنت. كما تأثرت كثيرا الكيانات التي تعتمد على التبريد لمنتجاتها، وكذلك حدثت مشاكل في المستشفيات ووسائل الرعية الصحية، خاصة تلك التي لا تمتلك مولدات خاصة بديلة، كما توقفت الأمور الخاصة بالتدفئة والتبريد في المنازل… إلخ.
إن المشكلة الرئيسة هي عدم توافر الغاز أو المازوت أو المال الخاص لشرائهما، هنا من المهم الإشارة إلى ما صرح به المهندس أسامة كمال وزير البترول الأسبق، من أن استهلاك مصر الطبيعي من الكهرباء يقدر بنحو 30- 31 جيجاوات، لكن المشكلة برزت في صيف العام 2023، حيث قفز الاستهلاك إلى 40 جيجاوات. وهو ما زاد من استهلاك الغاز من 74مليون طن عام 2022 إلى 80 مليون طن 2023.
ربما تشهد الأيام القادمة إصلاح لمنظومة توزيع الكهرباء بعد التدخل الناتج عن زيادة الغاز الطبيعي، ليس بفعل زيادة الموارد، لكن بفعل إيقاف شحنات الغاز إلى الخارج. وكانت وزارة البترول قد ألزمت نفسها منذ يونيو 2022 بمذكرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي وإسرائيل؛ بغرض زيادة صادرات كميات من الغاز المسال، تقارب 80 ألف طن إلى أسواق أوروبا عبر محطات الإسالة في إدكو ودمياط، وهو ما سيكون آخر شحنات الغاز في ربيع 2024، حيث سيوجه هذا القدر بعد ذلك بالكامل للأسواق المصرية بغرض الاستهلاك المحلي.
الجدير بالذكر هنا، أن إجمالي استهلاك مصر من الغاز مع ذروة ارتفاع درجات حرارة الصيف هو 6,3 مليارات قدم مكعب يوميا، وأن البلاد تنتج ما بين 5,2- 5,4 مليارات قدم مكعب يوميا، وبالنسبة لهذا العجز فإن مصر تشتريه من حقول الغاز الفلسطينية التي نهبتها إسرائيل بعد حرب 1948، وتقدر واردات مصر من هذا الكيان اللص بـ 1,2 مليار قدم مكعب خلال الصيف، وهو ما يستخدم في الشتاء؛ للتصدير مسالا إلى أوروبا، أو تستخدمه مصر محليا في الصيف.
إن الآمال معقودة اليوم على توليد الكهرباء من الرياح والمياه، إضافة بالطبع للمحطة النووية بالضبعة، لكن إلى أن يتم كل ذلك يتحتم التوقف عن الالتزام بأية اتفاقات للتصدير، حتى لا يتعرض الموقف الكهربي في الداخل إلى الانكشاف بأكثر مما هو عليه.