لم يعد هنالك شك، في أن الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية ضد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أصبح الآن من حقائق الحياة السياسية في الولايات المتحدة، وذلك بعد أن انتشرت الاحتجاجات والاعتصامات في حوالي ٧٥ جامعة، في أنحاء البلاد من نيويورك شمالا، إلى تكساس وأريزونا جنوبا، وبعد أن تكررت المضاعفات المتوترة للظاهرة على مستويات متعددة، منها ما بين الطلاب و الإدارات الجامعية، ومنها ما بين الطلاب وأجهزة الشرطة المحلية في عدد كبير من الولايات، ومنها جلسات الاستماع في أروقة الكونجرس، والتوتر بين الجامعات التي لا تقمع هذا الحراك، وبين مقدمي التبرعات والممولين، ،وبينها وبين النخبة السياسية التقليدية، ثم الجدل المحتدم حول، ما إذا كان هذا الحراك هو صورة من صور العداء للسامية، والردود المفحمة على هذه الادعاءات التي تصل إلي حد الإرهاب الفكري لكل من ينتقد إسرائيل، وكذلك بالطبع أنماط التغطيات الإعلامية والصحفية للظاهرة، ما بين التناول الموضوعي، وبين الانحياز المطلق والمسبق لإسرائيل.
غير أن أهم الأسئلة- في ضوء كل هذا من وجهة نظري- هو هل ستُثمر هذه الاحتجاجات الواسعة تغييرا كيفيا في السياسة الأمريكية نحو القضية الفلسطينية، على نحو ما فعلت الحركة الطلابية في الستينيات من القرن الماضي، في الحرب الفيتنامية؟ إذ كانت المعارضة الطلابية أهم أسباب اتخاذ الحكومة الأمريكية وقتها قرار الدخول في مفاوضات السلام الفيتنامية.
بالطبع هناك أوجه اختلاف بين الحالتين، فقد كانت الولايات المتحدة طرفا مباشرا في الحرب في فيتنام، ولم تكن طرفا غير مباشر من وراء إسرائيل، كما هو الحال في غزة، وبالتالي كان هناك ضحايا أمريكيون، مثلما كان هناك ضحايا فيتناميون، و كان التورط الأمريكي مقرونا بالفشل عسكريا وسياسيا، قد بلغ ذروة التأثير في الوضع السياسي في الداخل الأمريكي، وذلك حين قرر الرئيس ليندون جونسون (الديمقراطي) عدم الترشح لفترة رئاسية ثانية عام ١٩٦٨؛ بسبب هذا الفشل وذلك التورط، كما كان السبب الأكبر لنجاح الرئيس الجديد الجمهوري ريتشارد نيكسون، هو تعهده بإنهاء تلك الحرب، ولا دليلا حتى الآن، على أن تأثير المعارضة الطلابية الحالية للتورط الإسرائيلي، والمساندة الأمريكية في حالة غزة، يقترب من تأثير المعارضة في الحالة الفيتنامية.
لكن ذلك لا ينفي بالمطلق الديناميات التي ولدتها ظاهرة الاحتجاجات، والاعتصامات الجامعية الحالية حول حرب غزة في الحياة السياسية الأمريكية، وفي الحوار العام داخل أمريكا وخارجها حول الصهيونية، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهو الحوار الذي يشهد تغييرا راديكاليا، يتمثل في التحرر من عقدة الخوف من الاتهام بمعاداة السامية، أو بالأحرى انتشار واستقرار التمييز بين العداء للسامية، وبين انتقاد السياسات الإسرائيلية، خاصة بعد وضوح مشاركة طلاب، وناشطين من أصل يهودي في ذلك الحراك الطلابي المعارض، لما تفعله إسرائيل في غزة، فضلا عن سياسيين ومثقفين كبار من أصل يهودي، رفضوا ويرفضون بكل قوة تلك السياسات والممارسات الإسرائيلية.
بل إن سياسيا من وزن السيناتور الديمقراطي (اليهودي) بيرني ساندرز، اعتبر أي محاولة للخلط بين رفض ممارسات إسرائيل في غزة، وبين معاداة السامية بمثابة إهانة لذكاء الشعب الأمريكي، فقال مخاطبا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو: لا تهن ذكاء الشعب الأمريكي، فإن الكشف عن جرائم حكومتك المتطرفة ليس معاداة للسامية، وليس تأييدا لحماس، لقد قتلتم ٣٤ ألف فلسطيني ٧٠%، منهم نساء وأطفال، كما دمرتم ٢٢١ ألف وحدة سكنية، إضافة إلى كل الجامعات في غزة، وكل نظام الرعاية الصحية، واستطرد ساندرز قائلا، إن انتقاد كل هذا ضمن انتقاد حربكم غير الأخلاقية وغير القانونية، إنما هو انتقاد لممارسات عنصرية وفاشية، وليس عداء للسامية.
لا تنبع أهمية هذا الخطاب المتحدي من السيناتور ساندرز من كونه يهوديا، بقدر ما تنبع هذه الأهمية من سقوط مفهوم ابتزازي صهيوني آخر، بعد سقوط تهمة العداء للسامية لكل من يجرؤ على انتقاد سياسة إسرائيلية من غير اليهود، هذا المفهوم الآخر الذي سقط، هو تهمة كراهية الذات التي كانت دوما جاهزة؛ للإشهار في وجه كل يهودي ينتقد الصهيونية.
وعلى أية حال، فليست هذه فقط هي نتائج الحراك الطلابيّ الحالي حول القضية الفلسطينية، والحرب في غزة، إذ لا يمكن فصل هذا الحراك عن المعارضة الأمريكية الرسمية للاقتحام العسكري الإسرائيلي لمنطقة رفح، حيث يتكدس أكثر من مليون نازح، وهي المعارضة التي أخرت غزو رفح حتى اليوم، والتي قد تؤدي إلى إلغائه نهائيا في حالة التوصل إلى صفقة، تؤدي إلى إطلاق الرهائن الإسرائيليين لدى حركة حماس، وغيرها من المنظمات الفلسطينية في قطاع غزة، كما ألمحت مصادر إسرائيلية يوم السبت الماضي، ضمن حديث عن زخم جديد في مفاوضات الهدنة وتحرير الرهائن، ويعتقد على نطاق واسع، أن السماح لإسرائيل باقتحام رفح، بما سيترتب عليه من كوارث إنسانية للفلسطينيين، وذلك في عام انتخابات الرئاسة الأمريكية، سيضر ضررا أكيدا بفرص إعادة انتخاب الرئيس جو بايدن.
أخيرا يتعين الإشارة إلى ما يعرف باسم مفهوم العدالة العرقية المستحدث في أدبيات الحزب الديمقراطي الأمريكي، والذي يمثل إطارا يندرج فيه تضامن الجناح اليساري في الحزب مع الأقليات، والشعوب المظلومة، وذلك منذ حملة حياة السود مهمة، وهي لمن لا يتذكر الحملة التي انطلقت، وترسخت كرد فعل على المستوى القومي على جريمة قتل الشاب الأسود جورج فلويد في ولاية مينيسوتا قبل بضع سنوات، الأمر الذي يضمن أيضا رسوخ، واستمرار واتساع حالة التعاطف مع الفلسطينيين في الداخل الأمريكي، علي قاعدة العدالة العرقية هذه، وبما ينطوي عليه هذا التطور من تغيير إيجابي في مواقف النخب السياسية هناك نحو الحقوق الفلسطينية، على المدى الطويل، استجابة لتراكم التغير في مواقف الرأي العام هناك.