لم يكن ممكنا توقع تمديد الحرب على غزة لأكثر من مائتي يوم دون دعم استراتيجي أمريكي شبه مطلق.

في السابع من أكتوبر (2023) تلقت إسرائيل هزيمة استراتيجية نالت من نظرية أمنها وقدرة جيشها على الردع وإخافة ما حولها، وأحيت القضية الفلسطينية من جديد.

كان ذلك تطورا جوهريا استدعى تدخلا أمريكيا عاجلا بإرسال حاملتي طائرات إلى شرق المتوسط وألفي جندي من “المارينز”، فضلا عن تعبئة حلف “الناتو” للوقوف بجوار إسرائيل.

لم تكن الحرب التي نشبت إثر السابع من أكتوبر بين جيش احتلال وقوى مقاومة بقدر ما كانت صراعا مفتوحا مع الاستراتيجية الأمريكية بكامل مقدراتها على مستقبل الشرق الأوسط.

وفر الاسناد العسكري والاستخباراتي والاستراتيجي الأمريكي للجيش الإسرائيلي قدرته على تمديد العدوان وارتكاب جرائم حرب وإبادة وتجويع منهجي دون خشية حساب أو عقاب.

بالتعريف العسكري فإنها حرب غير متناظرة بين جيش يطلب الانتقام واستعادة هيبته، التي أهينت في السابع من أكتوبر كما لم يحدث من قبل، وقوى مقاومة محدودة العدد والتسليح في قطاع فقير ومحاصر.

بالحساب السياسي فإن عجز الاحتلال عن أن يحقق هدفيه الرئيسيين من الحرب، اجتثاث “حماس”، واستعادة الأسرى والرهائن، هو بذاته هزيمة مدوية.

أمام نفسها، وأمام العالم بأسره.

وبحساب الصورة، أفضت جرائم الحرب، التي ارتكبت وروعت العالم إلى هزيمة أخلاقية، هي الأخطر والأفدح في التاريخ الإسرائيلي منذ نكبة (1948).

سقطت الدعايات والأوهام مرة واحدة في الحرب على غزة.

بأي معنى إنساني وسياسي كان الصمود الفلسطيني أسطوريا أمام حرب الإبادة والتجويع المنهجي واستهداف كل ما يتحرك بالحياة في غزة.

لا رفعت رايات بيضاء، ولا تنكرت الحشود المعذبة للمقاومة.

بدا التشبث بالأرض، تحت أبشع المجازر في التاريخ الإنساني الحديث، حاسما في إجهاض مشروع التهجير القسري من غزة إلى سيناء وداعيا في الوقت نفسه إلى ملاحقة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة “الإبادة الجماعية”.

كان ذلك حدثا دوليا مزلزلا يعود الفضل الأول فيه إلى جنوب إفريقيا، تلاه حدث له دلالته أمام نفس المحكمة بدعوى من نيكاراجوا تطلب إلزام ألمانيا بعدم تصدير السلاح لإسرائيل، الذي يستخدم في ارتكاب جرائم إبادة جماعية.

الملاحقة القضائية، من دولتين إحداهما إفريقية والأخرى لاتينية، تنبئ عن تحولات سوف تأخذ مداها في النظر الإنساني إلى طبيعة الدولة العبرية والموقف منها.

وكان توجه المحكمة الجنائية الدولية لاستصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو” ووزير دفاعه “يوآف جالانت” ورئيس الأركان “هرتسي هاليفي”، تأكيدا على أن حصانة إسرائيل من الملاحقة التي تستحقها قد تقوضت.

لم يكن ممكنا تخيل أن يحدث ذلك لولا ما أبدته المقاومة الفلسطينية من إرادة قتال وصمود تحت أسوأ الظروف.

بأثر الحرب وتداعياتها تكشفت حقائق جديدة في الصراع على المنطقة، أهمها وأخطرها تغيير معادلة الردع، التي احتكرتها إسرائيل لسنوات طويلة.

معادلة الردع جوهر نظرية أمنها.

في اجتياحات المخيمات والمدن بالضفة الغربية تبدت شروخا بمعادلة الردع حيث لم تنجح الدبابات والجرافات الإسرائيلية في إخضاع مخيم “جنين”، ولا في استئصال المقاومة المسلحة في نابلس ومدن أخرى.

في “طوفان الأقصى” تحولت الشقوق إلى فوالق، قبل أن تصل ذروتها بالهجوم الإيراني على إسرائيل بمئات المسيرات والصواريخ الباليستية دون أن تجرؤ الأخيرة على ضربة أقوى خشية ردة الفعل.

إنه الردع المتبادل لا مسرحية هزلية متفق عليها.

بقوة الحقائق المستجدة تأكد أن احتكار الردع بات من الماضي.

وبأثر الحرب وتداعياتها تعالت الانتقادات في الشوارع الغربية ضد الجرائم الإسرائيلية دون خشية الاتهام بـ”العداء للسامية”.

كانت تلك تهمة جاهزة لمصادرة أية انتقادات، كأنها حصانة من النقد، أو تصريحا بارتكاب جرائم الحرب دون حساب.

لم يكن العالم العربي والإسلامي طرفا فيما تعرض له اليهود من اضطهاد في الغرب، لكنه دفع الثمن وحده حيث ارتكبت بحقه جرائم أفدح.

بأثر جرائم غزة، التي تابعها العالم على شبكات التواصل الاجتماعي، حدث ما يشبه الانشقاق بين جيلين في المجتمع اليهودي الأمريكي نفسه.

جيل قديم ينحاز في غالبيته إلى إسرائيل متبنيا الرواية الصهيونية للصراع.. وجيل جديد أفزعته “محرقة غزة”، الهولوكوست الجديدة التي يراها أمامه لا عبر أفلام هوليوود.

تظاهر وتضامن الجيل الجديد من اليهود الأمريكيين مع القضية الفلسطينية، شارك في الحركة الطلابية التي دعت إلى وقف نار مستدام في غزة وسحب استثمارات الجامعات الأمريكية بأية شركات تدعم إسرائيل بالتكنولوجيا العسكرية.

كان ذلك التطور، بحجمه وأثره، داعيا إلى ردة فعل مذعورة داخل المؤسسة الأمريكية بجناحيها الديمقراطي والجمهوري ضد الاحتجاج الطلابي السلمي خشية تداعياتها السلبية على استراتيجيتها في الشرق الأوسط.

اقتحمت شرطة نيويورك جامعة كولومبيا مجددا، احتلت حرمها الجامعي، اعتقلت عشرات الطلاب، ومثلت عقوبات الطرد في المشهد.

حدثت سيناريوهات مقاربة في الجامعات الأمريكية الأخرى.

ليس بمقدور القبضة الأمنية إلغاء فعل الغضب الطلابي تضامنا مع غزة ورفضا للعدوانية الإسرائيلية.

كل هذه هزائم سياسية لإسرائيل لا يمكن تجاهلها، أو التجهيل بها.

تبدت أحوال مستجدة لم تكن تخطر على بال أحد، ولو في الأحلام المحلقة، كأن تعم المدن الكبرى والجامعات الأمريكية والغربية احتجاجات تدين إسرائيل، ترفع أعلام فلسطين وتهتف من أجل حريتها، ترتدي الكوفية وترقص “الدبكة”.

رغم ذلك كله فإن الانكشاف العربي شبه الكامل قد يبدد ثمار التضحيات الفلسطينية.

فيما هو معروض على إسرائيل الآن ثمنا لعدم اجتياح رفح، تطبيعا كاملا مع السعودية وحلفا إقليميا أمنيا واستراتيجيا مشتركا يضم دولا عربية ضد إيران!

وفيما هو ماثل يعلن “نتانياهو” عزمه على اجتياح رفح، سواء حدث اتفاق لتبادل الأسرى والرهائن أو لم يحدث، بذريعة “النصر المطلق”، الذي لم يحقق منه حتى الآن علامة واحدة.

أسوأ ما قد يحدث إجهاض الحركة إلى المستقبل بأن تحصد إسرائيل بالتخاذل المفرط ما عجزت عليه بالسلاح.