ما بين الحين والآخر، تظهر مشكلة جديدة ما بين الدوائر القضائية، وبين أحد المحامين، وذلك أثناء علاقة عمل كلا الطرفين، وهو الأمر الذي يشكل خطورة فائقة على مضمون العلاقة بين فئتين، تمثلان مضمون العدالة، إحداهما تمثل السلطة الحكومية “وهي سلطة القضاء” والأخرى تمثل حقوق المواطنين في الدفاع، وهم “المحامون “، وإذ أن لهذه التطورات السلبية لا يمكن بحال من الأحوال، أن تكون نتيجتها في صالح مفهوم العدالة، وتطبيقه على أطراف النزاع.

فمنذ فترة ليست ببعيدة، كتبنا عما تم من نقاش حاد بين إحدى دوائر محكمة الجنايات بمحكمة كفر الشيخ، وبين أحد المحامين، وعلى حسب ما أدلى به المحامي في شكواه إلى نقيب المحامين الفرعي، والنقيب العام، حينها، أن رئيس المحكمة قال له نصاً “الكارنيه ده تروح تجيب بيه فرختين”، وذلك تعليقاً على كون المحامي غير مقبول للمرافعة أمام محكمة الجنايات، وإن كان المحامي لم يكن يرغب سوى في تأجيل القضية؛ لحين حضور المحامي الأصيل، وصاحب الحق في المرافعة، وتصاعد الأمر رويداً،  إلى أن وصل إلى مكتب النقيب العام، وذلك بعدما أجريت انتخابات نقابة المحامين.

ومنذ يومين، ذهب وفد من أعضاء مجلس النقابة العامة رفقة أعضاء مجلس النقابة الفرعية، وذلك لإثبات اعتراضهم على ما صدر من المستشار/ رئيس المحكمة، وكذلك إثبات إضراب جزئي للمحامين في الحضور أمام هذه الدائرة، وما أن وقف المحامون في بداية انعقاد الجلسة، ومحاولة إثبات صفاتهم النقابية، فما كان رد رئيس المحكمة إلا بقوله: “لا وقت للعبث، رفعت الجلسة”.

وقد أعقب ذلك، أن أصدرت نقابة المحامين بالدقهلية بياناً، يوجب مقاطعة الدائرة الأولى استئناف جنايات المنصورة برئاسة المستشار/ بهاء المري، ورفع الأمر للنقابة العامة؛ لاتخاذ ما يلزم من إجراءات تصعيدية أمام الجهات الرسمية؛ حيال ما بدر منه مع وفد نقابة المحامين.

فلست أدري، لماذا  تتكرر تلك المآسي ما بين طرفي العدالة، وهم أهل القانون ومن المفترض، أن يكونوا سدنته، وعليهم أن يضربوا المثل أمام فئات الشعب على احترام القواعد القانونية، والامتثال لمفهوم سيادة القانون، لكن ما يحدث من مشاحنات ومواقف متكررة، لا تنم على وجود تلك العلاقة بينهما، وهو الأمر الذي ينذر بمزيد من المشاكل  في مفهوم مرفق العدالة، وما يستتبعه الأمر من تحديات، لا تعود بخير على المواطنين.

فعلى الجميع من المهتمين بأمور العدالة في مصر، أن يتسألوا: لماذا أصبحت العلاقة بين المحامين والقضاة شائكة الآن، وتشهد العديد من المصادمات؟ فمن المفترض أن المحاماة بمنزلة أمانة تمثيل أصحاب الحقوق، والمتنازعين في خصومة قضائية، أو تمثيل الدفاع عن متهم، أو مجني عليه في خصومة جنائية، والمحاماة لا تعرف، إلا أن تكون هناك منازعة بين طرفين على حق المدعي من كليهما صوب الآخر، كما أن هناك مبارزة تعرفها المحاماة، منذ نشأتها، كانت أسلحتها الحجة والمنطق والمعلومة القانونية، والاحتكام فيها إلى الحكم القاضي بتسليم حضاري.

إذ أن قوام العلاقة بين المحامي والقاضي هو الاحترام المتبادل، فيجب على المحامي إبداء الاحترام الواجب تجاه السلطة القضائية، والدفاع عن كرامة هذه السلطة وتعزيزها، وهذا يستلزم من المحامي احترام الذات، أثناء أداء الواجب المهني، دون إنكار أو إنقاص للكياسة والاحترام الواجبين تجاه منصب القاضي، وهذا هو الأساس لتوحيد للعلاقات الشخصية، والرسمية والودية بين القضاء والمحاماة، وعلى ذلك يجب على المحامين، أن يمتنعوا على نحو صارم عن ممارسة أي تأثير شخصي على القاضي، وعن التدخل في إقامة العدل، على النحو الواجب، ويجب ألا تكون العلاقة بين القضاء والمحامين عرضة “لإساءة الدافع”ويجب ألا تظهر هذه العلاقة كدلالة على وجود محاباة، خاصة لمحام معين، وعلى المحامي أن يتجنبوا كل من شأنه تأخير الفصل في النزاع، والسعي لإقرار مبدأ استقلال السلطة القضائية، والدفاع عنه، وضمان حقوق القضاة وحصانتهم واستقلالهم.

كما أنه على القضاة أن تتعامل مع المحامين على أقل تقدير، بما توجبه القوانين من أصول في التعامل المهني، الذي يجب أن يلفه الاحترام وتعلوه قيم العدالة الواجبة النفاذ، والتي لا تتحقق بشكل مرضٍ إلا بنزع فتيل الأزمات المتكررة بين الطرفين بطريقة، يكون هدفها الرئيسي أن تسير مركب العدالة التي تمثل حقوق المواطنين إلى بر الأمان، بما يتفق وحقوق وواجبات كل فئة على الأخرى.

وقديما أذكر، أنه حينما كان يرى القاضي، أن المحامي حديث عهد بالمحاماة، كان يوجهه بود واحترام إلى كيفية سبيل العدالة، وكيفية تملك أدوات قضيته، دونما لوم أو إسقاط، قد يؤذي بالمحامي. كما وللتاريخ أذكر لكم، ما ذكره الأستاذ محمد شوكت التوني في كتابه “أحزاب وزعماء”:  “حدث أنه كان الأستاذ الكبير المغفور له حسن إسماعيل الهضيبي ـ مرشد الإخوان من بعد ـ قاضيا بمحكمة سوهاج، ودخل عليه المرحوم الأستاذ محمد صبري أبو علم، المحامي في غرفة المداولة فتعانقا، فقد كانا أبناء دفعة واحدة، وفرقت بينهما الأيام، ورحب القاضي بزميله المحامي، وطلب له فنجاناً من القهوة، وتحدثا حديثا وديا، وكان قد نشر في الصحف، أن المرحوم محمد صبري أبو علم سيعين وكيلا برلمانيا لوزارة العدل، وقد جاء ذكر ذلك في باب التهنئة من زميل لزميله، وقال صبري أبو علم ردا للتحية: إذا كنت ترغب في النقل إلي مصر فقل لي، أنفذ رغبتك فورا بعد تعييني”.

فما الذي حدث؛ لكي تصير العلاقة بين القضاة والمحامين على هذا المستوى من الخطورة، وهما أبناء رحم واحد، فقد تخرجا الطرفين من ذات الكلية بذات المنهج، وربما في حالات كثيرة ذات التقدير، فهل نجد مبررا لتفاقم الأمور بشكل متزايد؟ وهل يكون كون أحدهما يمثل السلطة سبباً لذلك/ أم نجد عدم التزام الدولة بتوفير أمور لازمة لمهنة المحاماة داخل أبنية المحاكم، يوفر شعور بالدونية، أم نجد عدم التزام الدولة بتحقيق النسبة المنصوص عليها في قانون السلطة القضائية من تعيين نسبة من المحامين داخل السلطة القضائية سبباً لذلك؟

أرى أن الأسباب كثيرة، منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو سلطوي، ولكن في النهاية فإن كل ذلك يعوق مسيرة العدالة على النحو المكفول بنصوص الدستور ذاته، وهو أمر لا يجب أن نضع رؤوسنا في الرمال نحوه، ونغض الطرف عنه، وندع الأمور تسيرها الأقدار، إذ لا بد من تدخلات سريعة وفورية، ما الجانبين تحفظ لكليهما شأنه وقيمته، وتدعم بكل الصور تطوير منظومة العمل إلى الشكل الذي يجعل فعليا من سيادة القانون هو الأساس الحاكم للجميع.