إلى اليوم ورغم الجهود الحكومية الكبيرة لا زال الناس يعانون من قدر كبير من الانفلات في أسعار السلع والخدمات. نسب التضخم العالية، والتي ما تلبث أن تنخفض درجة إلا وتعود؛ لترتفع درجتين، أعجزت المنتمين للطبقتين الدنيا والوسطى عن الحياة، وسببت لهم تقويضا لحركتهم وحرجا بالغا أمام من يعولونهم، ما جعل هناك خللا محتملا في الأمن الاجتماعي والسياسي للبلاد، لكون المنتمون لتلك الطبقتين يقدر عددهم بالملايين، بل أنهم هم الغالبية العظمى من عدد السكان المقدر اليوم بـ 106 ملايين نسمة للمواطنين في الداخل.

واحد من الأمور التي تكبح جماح تداعيات التضخم، هو الإجراءات الحكومية التي تصدر من حين لآخر كتلك التي تصدر برفع الحد الأدنى للإعفاء الضريبي، وزيادة الحد الأدنى للدخول والرواتب، وكذلك إجراءات الحماية الاجتماعية عبر عديد البرامج الحكومية التي تنظم من حين لآخر، ناهيك بالطبع عن بلوغ الدعم في الموازنة الحالية 23/ 2024 ما هو قدره 127,7 مليار جنيه. لكن ما يجعل تلك الإجراءات، وكأنها لم تكن، هو حدة الجشع والفساد والإفساد الذي يمارسه التجار، ما يجعل كافة تلك الأمور محدودة التأثير، خاصة في ظل انخفاض الرقابة الحكومية على الأسواق، ليس فقط بسبب ضخامتها، وقلة القائمين على المتابعة والإشراف، بل وأيضا للسلطات المحدودة لبعض الأجهزة المعنية بالمتابعة، ما يظهر بوضوح في تعبير وزير التموين علي المصلحي، بأن الوزارة دورها في مواجهة الغلاء وضبط الأسعار لا يتعدى كونه دورا رقابيا وإشرافيا (اليوم السابع 28 /2 /2024).

المؤكد أنه في ظل آليات السوق الحر من الصعب إصدار تسعيرة جبرية؛ ليتحدد بها أسعار، لا يمكن تجاوزها. لقد قامت الدولة والعالم على مشارف الحرب الكونية الثانية، وعقب الكساد الكبير الذي ضرب العالم بأسره في نهاية العقد الرابع من القرن العشرين بتلك الخطوة، وذلك بإصدر المرسوم بقانون رقم 101 لسنة 1939، حيث تم وضع حدٍ أقصى لأسعار المواد الغذائية والأولية، وبموجب ذلك تم إنشاء لجنة مركزية لتحديد الأسعار، يرأسها وزير التجارة والصناعة. ولكن تم إيقاف العمل بكل ذلك عام 1945، حيث أنشأت وزارة التموين والتي اعتمد عليها في القيام بهذا الدور، وتم العمل بالمرسوم بقانون رقم 163 لسنة 1950 بشأن التسعير الجبري. كما تم تطبيق التسويق التعاوني لبعض الحاصلات الزراعية، وتحديد أسعار بيع المدخلات اللازمة للإنتاج الزراعي. وكل هذه الأمور تم إيقافها مرة أخرى عام 1974، بعد الانفتاح الاقتصادي، حيث تم الأخذ بآلية السوق، وبذلك أصبح ما كان يمكن القيام به في الماضي يستحيل تطبيقه في الوقت الحاضر.

على أن هذا الأمر لا يعني البتة ترك الأسواق للانفلات، فمع التسليم بحرية العرض والطلب، إلا أن الأمم المتحدة ذاتها وقفت أمام هذا الانفلات، حيث ذكرت أحد تقارير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، وبحق إنه وإن كان هناك انتصار للرأسمالية فليس هناك ما يستدعي الجشع الشخصي.

من هنا، فإن من المهم اللجوء إلى عديد الإجراءات؛ لوقف هذا النزيف في أقوات الشعب. واحد من أهم السبل التي اكتشف جدواها مؤخرا، هو المقاطعة الشعبية للسلع مرتفعة الأسعار، والتي يتبين للناس، أن هناك جشع واستغلال في أثمانها. مبادرات مثل “خليها تعفن”، و”خليها تنتن”، و”خليها تفقس”… إلخ، هي ما برز من إجراءات ماضية ومستقبلية خلال الأسبوعين الماضيين والأيام القادمة، لمواجهة أسعار الأسماك واللحوم والبيض وغيرها. فعقب محاربة تجار ومنتجي الأسماك، ونجاحهما في خفض أسعار الأسماك ما بين النصف والثلث في أكثر من نصف محافظات الجمهورية، بدأ الناس في الدعوة لحملة مشابهة لمقاطعة اللحوم الحمراء؛ لمنع استغلال التجار، لا سيما بعد استقرار أسعار الأعلاف بعد توافر العملات الأجنبية؛ بسبب الإجراءات الاقتصادية الأخيرة، وعمليات بيع بعض الأصول في شهر مارس الماضي.

ما حدث من انخفاض في أسعار بعض السلع؛ بسبب مبادرات المجتمع المدني الخاصة بالمقاطعة، أثبت للدولة، أن الناس أقدر منها على المواجهة، وأنها لا زالت يدها مرتعشة؛ لمواجهة الفساد والاحتكار بين المنتجين والتجار، ما قد يشجعها بعد المبادرات الشعبية سالفة الذكر؛ لاتخاذ إجراءات قوية لمواجهة الاحتكار والاستغلال.

لا شك أن مكافحة الغلاء يكمن بالأساس في أسعار الغذاء الذي يبتلع النسبة الأكبر من التضخم، ولعل المشكلة الكبرى تكمن بشكل أخص في السلع الرئيسة التي سبق للدولة أن حددتها كسلع استراتيجية، لا يمكن قبول التلاعب بها، وهي زيت الطعام والفول البلدي والسكر والأرز والألبان والمعكرونة والجبن الأبيض. وكانت تلك السلع وسلع أخرى كالدواجن، قد ارتفع ثمنها بنسبة ٧١٫٣٪ خلال أكتوبر 2023، وزاد ارتفاعها– باستثناء زيت الطعام- مع قدوم شهر رمضان في مارس/ إبريل الماضي. ما جعل هناك تهديدا حقيقيا للأمن الاجتماعي، خاصة وأن تلك السلع هي السلع الرئيسة التي تستهلكها الشرائح الاجتماعية الأقل دخلا، حيث تمثل نحو ٤٤٫٦٪ من إجمالي استهلاك هذه الشريحة مقارنة بنحو ٢٠٫١٪ للشريحة الأعلى دخلا (وفقا لبحث الدخل، والإنفاق عن عام 2019 /2020) الأمر الذي ألقى بمزيد من الأعباء المعيشية على كاهل هذه الأسر، خاصة مع زيادة معدلات الفقر؛ بسبب عدم مواكبة الرواتب والدخول للغلاء وارتفاع الأسعار رغم ارتفاع الحد الأدنى للأجور إلى 6000 جنيه في فبراير الماضي.

وكما أنه من غير الملائم فرض تسعيرة جبرية؛ خشية أن تختف السلع من الأسواق أو أن يرتفع ثمنها، كما حدث بالنسبة للأرز، وما واجهه من مشكلات عند فرض تسعيرة جبرية له منذ نحو 7 أشهر، حيث ارتفع ثمنه بشكل كبير، فإنه من الأهمية، أن تتخذ عديد الإجراءات الحكومية البديلة التي يمكن أن تقوم بها الدولة؛ لمواجهة التضخم، ما يعلن من مبادرات مثل إعلانها مؤخرا عن مبادرة خفض أسعار بعض السلع الأساسية بالتنسيق والتعاون مع اتحادات الغرف التجارية والصناعات، حيث تم إعفاء العديد من السلع من الجمارك والرسوم لمدة ستة أشهر، تنتهي في يونيو 2024، مع منح الأولوية للسلع الأساسية والغذائية والأدوية ومستلزمات الإنتاج، بما يضمن إعادة دوران عجلة الإنتاج بكامل طاقتها، مما يزيد من المعروض السلعي وبالتالي، يسهم في تهدئة الأسعار.

موازاة مع ذلك، من المفيد للغاية تشديد العقوبات؛ لمواجهة الاحتكار، بجعل هذا السلوك جريمة، وليس جنحة، وأن يتم مصادرة السلعة وطرحها في منافذ الدولة المختلفة، وغلق النشاط وتضخيم حجم الغرامة وسنوات السجن للمحتكرين، هذا إضافة إلى جعل من تثبت إدانته بجريمة الاحتكار من المفتقدين لحقوقهم السياسية والمدنية، بما يعني عدم حقهم في الترشح للمناصب التي تشغل بالانتخاب، إلا بعد أن يرد إليهم اعتبارهم.

من المفيد أيضا العمل على إصلاح قانوني جهازي حماية المستهلك، وحماية المنافسة، ومنع الممارسات الاحتكارية بغية إعطائهما المزيد من الصلاحيات، وإعادة النظر في الوضع الحالي لمجالس إدارتهما مع تشديد العقوبة كما ذكر أنفا.

كما يمكن التفكير في إعادة إنشاء جهاز تخطيط الأسعار الذي كان معمولا به، داخل وزارة التخطيط، وفقا للقرار الجمهوري رقم 2017 لسنة 1971، والذي استمر العمل به حتى عام 1977، حيث كان يقوم باقتراح أسس السياسة السعرية، وتحديد أسعار السلع والخدمات التي تتطلب حماية اجتماعية من جانب الدولة، وتحديد المعايير الاسترشادية للتسعير وفقا للتكاليف الإنتاجية، وكفاءة تشغيل المنشآت (الجبالي، الأسعار بين التسعيرة الجبرية والتخطيط، ديسمبر 2023).

وإذا أضيف إلى كل ما سبق تشجيع المجتمع المدني على الخوض في تجربة مقاطعة السلع مرتفعة الأثمان، وإعادة فتح المصانع المغلقة، بما يزيد من هيكل الإنتاج، والتخلص من السياسات البيروقراطية الخاصة بالمعوقات أمام الاعتمادات المستندية لدخول المنتجات عبر المواني المختلفة، لاكتملت الصورة إلى حد كبير، خاصة مع اتفاق الدولة مع الغرف التجارية والسلاسل التجارية، وغيرها على الوصول إلى أسعار عادلة للمنتج والتاجر والمستهلك، بما يضمن سيولة التعامل، ورفع الاستغلال عن المواطن، مع كل ما يتواكب معه من دعم أجهزة الرقابة الآلية والمحاسبية للخلاص من كابوس التضخم.