غموض غير بناء، تسيد الموقف خلال ما يزيد عن أربعين عاماً، من عمر العلاقات المصرية الإيرانية، حيث لا سبب واضح لاستمرار القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، وتحديدا من الجانب المصري الذي حافظ على موقف غير مرحب بمحاولات الإيرانيين للتقارب والحوار.

في البيان الصادر عن الخارجية المصرية، والذي نشرته على صفحتها الرسمية علي فيس بوك، بدا لافتا استخدام مصطلح “تطبيع العلاقات” باعتباره هدفا نهائيا للمشاورات التي يفترض، أنها ستتواصل بين الطرفين، كون العلاقات بين البلدين رغم انقطاع مسارها الدبلوماسي لسنوات، لم تكن أبداً علاقة عداء، أو غير طبيعية.

بيان الوزارة ذكر، أن لقاء وزيرا خارجية البلدين تطرق لمسألة العلاقات الثنائية بين البلدين في فقرته الأخيرة، عقب إشارته لمباحثات حول الوضع في غزة، وتشارك البلدين رفضا قاطعا للعملية الإسرائيلية البرية في رفح، والتي ترفضها كل دول العالم تقريباً، وكذا بحث الجهود المصرية في مسارات الهدنة، وصفقة التبادل والوقف الشامل لإطلاق النار في غزة.

هل يعني اللقاء الجديد لوزيري الخارجية على هامش قمة العالم الإسلامي في توجول اقتراب إعلان عودة العلاقات بشكل كامل وتبادل السفراء؟ لا أحد يملك إجابة نهائية، فالموقف المصري شحيح في كشف نواياه، أو حتى التلميح بها، في حين لا تكف الإدارة الإيرانية عن إعلان ترحيبها بأي تقدم في مسار العلاقات مع مصر.؟

سلطان عمان هيثم بن طارق، لعب دورا أساسيا في الوساطة النهائية بين الطرفين، ونقل الرسائل الإيجابية بين البلدين، لكن يبقى العامل الحاسم هو التقارب الإيراني السعودي الذي أعقب اتفاق البلدين في بكين قبل أشهر قليلة.

الرد الإيراني المباشر على اعتداء إسرائيل على قنصليتها في دمشق، والذي تضمن هجوما بالصواريخ والمسيرات، استلزم احتوائه دعما من أمريكا وبريطانيا ودول أخرى، والذي أعاد ترسيم خرائط النفوذ في الإقليم، قد يكون عاملا حاسما آخر في تغير خارطة التحالفات في الإقليم، ونهاية للحلم الإسرائيلي اللامنطقي، بإنشاء تحالف إقليمي “سني” مدعوم أمريكيا في مواجهة إيران ومحور المقاومة.

وبالتأكيد كان هناك دور لتآكل التفوق والردع الإسرائيلي، المدعوم غربيا عقب عملية طوفان الأقصى، وفشل جيش الاحتلال في تحقيق إنجاز عسكري على أرض غزة، ليظل مكتفيا بقتل المدنيين على مدار أكثر من 200 يوم، على الأقل في إعادة النظر في حجم ومستقبل إسرائيل وحلفائها في المنطقة.

ترى قناة 24 الإسرائيلية، أن النهج المصري تجاه تطبيع العلاقات مع طهران لا زال متحفظا، ويربطه محللوها بمتغيرين الأول إقليمي هو التجربة السعودية في استئناف العلاقات مع طهران، والثاني هو ضوء أخضر أمريكي، يتأتى من حرص واشنطن على استقرار الإقليم، وحرص مصر على الدعم الأمريكي الإسرائيلي لدى المؤسسات المالية الدولية.

سبق لنا في “مصر360″، أن طرحنا تساؤلات عن العلاقات المصرية الإيرانية، وتقاسمنا فيها مع خبراء الحيرة من الموقف المصري، الذي احتاج لحوالي عشر سنوات؛ ليستعيد علاقاته الكاملة مع تركيا أردوغان التي ناصبته العداء، وآوت معارضيه، فيما لا يجد متسعا لإيران التي عبرت مرارا وتكرارا عن رغبتها في استعادة العلاقات الكاملة مع القاهرة،

إيران تتحرك بثقة؛ لتكون لاعبا رئيس في الإقليم، وبعيدا عما يؤكده ساستها من التزامهم أخلاقيا ودينيا في مساراتهم السياسية، تبدو القرارات والخيارات الإيرانية أكثر إنسانية، والتزاما بعلاقات الحلف والمصالح المشتركة، كما في الحالة السورية مثلا، الأمر الذي يجعلها حليفا موثوقاً، يعتمد عليه بخلاف غيرها، تركيا مثلا، وبالطبع الولايات المتحدة التي تنقلب على حلفائهاــ ما عدا إسرائيل ــ دون أن يطرف لها رمش.

مرة أخرى قد يظل “الخيار الساداتي” الذي يضع 99% من أوراق اللعبة بيد الأمريكان ــ وعلى الرغم من ثبوت فشله ــ عائقا دون علاقة بين القاهرة وطهران ترقي لمستوى الطموحات وحجم التحديات، لكن الإيرانيين ــ الذين ابتكروا لعبة الشطرنج ــ  يجيدون الحركة على رقعة الإقليم، ويعرفون قدر اكتساب مصر ولو جزئيا، في مسار الصراع الدائر بين الشرق والغرب، وأن لبس خلال العقود الأخيرة مسوحا دينية.

الصراع في جوهره متعلق بالموارد والثروات، وطرق سلاسل الإمدادات، قبل أن يكون متعلقا بالمقدسات، أو الأرض الموعودة، لكن هذا لا ينفي تقاطع المسارات، سلامة التأويل من المنظورين.

دعمت مصر عبد الناصر فصائل التحرر الوطني في إفريقيا والشرق الأوسط، ومثلت خطرا على مصالح الغرب الذي استطاع لاحقا توجيه ضربة شبه قاصمة للتجربة التي انتهت تماما برحيل صاحبها، بينما لم ينجح حتى اللحظة في كسر رحلة الصعود الإيراني، الذي ساهمت فيه بشدة مساندتها المستمرة لحركات المقاومة المتعددة في الإقليم، وربما أبعد من الإقليم.

وساهم التحالف الإيراني الروسي الصيني في تمتين حائط الصد في مواجهة الأطماع الغربية، التي ترى في الشرق الأوسط منجما وممرا للتجارة، يسكنه “حيوانات بشرية”، ليست جديرة بثرواتها، ولا مقدراتها، بل ولا مانع من استخدام الأرض لدفن النفايات الخطرة، بالتعاون مع سماسرة ووكلاء محليين.

الكرة الآن في ملعب القاهرة بالكامل، فالخطوة القادمة تجاه طهران، ستساهم بشدة في ترسيم حدود مناطق النفوذ، وملامح الشرق الأوسط الجديد، الذي لا تملك أمريكا فيه من أوراق اللعب أكثر مما يمتلكه، ويديره “السكان الأصليون”، ولا تمثل فيه إسرائيل يدا طولى، بقدر ما تمثل عبئا على الإقليم الذي زرعت فيه قبل ثلاثة أرباع القرن، وهي فترة قصيرة في عمر الشعوب.