مع فجر كل يوم، ينطلق آلاف العمال إلى مصانع الطوب الطفلي الأحمر بزفتى بمحافظة الغربية، مُحملين على عربات نصف نقل ليقضوا يوما طويلاً في صناعة وتحميل منتج تفضي صناعته لتلوث شديد للبيئة، وقبلها القائمين على الصناعة من هؤلاء العمال، دون أي مقومات للحماية، ولا حد أدنى للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، ودون حتى ان يحصلوا على أبسط هذه الحقوق حتى في يوم عيدهم “عيد العمال الأول من مايو” الذي مر عليهم وهم يكابدون الغبار والتلوث المميت. بلا  ي تعويض مالي أو غير مالي يحصلون بموجبه حتى على مجرد يوم إجازة.

أفواه جائعة

“محمد السيد”، يعمل في مصانع طوب منذ 25 عامًا، لكنه يظل على الورق شابا، إذ انضم لتلك المهنة الشاقة من سن العاشرة، ليساعد والده في الإنفاق على أسرته الكبيرة المكونة من 6 أفراد، لم تمنعه نوبات السعال التي تنهش صدره من الراحة يومًا، فلديه أفواه جائعة، لا بد من سدها بصرف النظر عن الدخان الأسود المنطلق من حرق المازوت، وثاني وثالث أكسيد الكبريت الذي عشش في صدره على مدار  غالبية عمره.

تدفع البطالة والعوز المالي قطاعا عريضا من العمال؛ للقبول بمهن خطيرة من سن مبكرة، من أجل يومية، لا تتجاوز 150 جنيهًا في أحسن الأحوال، لا تقدم لهم أدنى الاشتراطات الصحية، أو حتى وسائل الحماية البسيطة حال تعرضهم لإصابات، تمنعهم من القدرة على الاستمرار في العمل.

تتنوع مهام “محمد” على مدار اليوم بين فرن الاحتراق ورص الطوب الأخضر قبل احتراقه، ثم تحميلة على عربات كارو، تسحبها الحمير للتخزين، ويتحرك ذهابا وإيابا قاطًعا الطريق السريع الذي يفصل بين المصنع، ووحدات التخزين وسط مخاطر مستمرة للتعرض للحوادث.

من المخاطر التي يواجها “محمد” كغيره من العمال خطر الاحتراق، مثلما حدث في مركز كوم حمادة جنوب محافظة البحيرة، حينما شب حريق داخل مصنع طوب بقرية أمين إسماعيل؛ جراء حدوث ماس كهربائي، وخلال السيطرة على الحريق، انفجر عدد من أسطوانات الغاز داخل المصنع، مما أدى إلى إصابة 17 شخصا بحروق متفاوتة في أنحاء الجسم.

يرتدي محمد ملابس قديمة، كانت أبيض في يوم من الأيام، وتحولت إلى اللون البني بفعل التراب، والغبار والعرق؛ لتصبح تماما شبيهة بلون الطوب الطفلي قبل احتراقه، ويضعه على رأس فقط قطعة قماش قديمة، تحميه من حرارة الشمس اللاسعة وسط النهار.

وكشفت دراسة حديثة عن مصانع الطوب، عدم وجود مهمات للسلامة أو الوقاية المهنية ووجود بعض العاملين في الفئة العمرية أقل من 16 عاما، وتعرض الكثير منهم للحوادث والإصابات أثناء العمل والأضرار البيئية الشديدة على البيئة، وعلى العاملين، نتيجة عدم استخدام مهمات الوقاية والسلامة والصحة المعنية.

صناعة الأسمنت.. امتصاص التلوث من المنبع

في القلب من الصناعات الملوثة للبيئة، يتربع الأسمنت على العرش، وهي صناعة شهدت شكاوى عمالية على مدار عقود من تأثيرات صحية خطيرة، تعرضوا لها، وكل ما تقدمه لهم المصانع خوذة فقط في أحسن الأحوال، لا تقي صدورهم من غبار، يستنشقونه يتراكم، حتى تصاب الرئة بالتحجر.

وقبل أيام، صدر حكم قضائي ضد شركة “تيتان” البلجيكية، مالكة شركة الإسكندرية بورتلاند بإخلالها بالمعايير المتعلقة بحماية البيئة والإضرار بصحة الكتلة السكانية الملاصقة لها؛ بسبب استخدامها الفحم في الصناعة، وإذا كان الأهالي الملاصقون قد تعرضوا للضرر الصحي، فما بالنا بالعمال العاملين في الإنتاج.

بحسب المبادرة المصرية لحقوق الإنسان، فإن الشركة المقصودة أضرت بحقوق العمال المادية أيضًا، إذ رفعت أرباحها بتقليص حجم العمالة لديها، كما حرمت عمال المعاش المبكر من مستحقاتهم، وعمدت الشركة إلى التمييز في المعاملة بين العمال المثبتين لديها وعمال شركات التوريد، رغم أنهم جميعًا يمارسون نفس العمل.

أغلب العاملين بمصانع الأسمنت يمرضون قبل الوصول إلى سن المعاش، وتستبدلهم المصانع بعمال جدد، بعد أن يعجزوا عن العمل، بحسب الدكتور خالد سمير، أمين صندوق النقابة العامة للأطباء، الذي قال إن العاملين بمجال السيراميك والأسمنت من أكثر المعرضين للإصابة بمرض السرطان، لما تحويه مواد السيراميك والأسمنت من مواد مسرطنة، لذلك ترفض جميع الدول المتقدمة تصنيعهما، وتفضل استيرادهم من الدول النامية.

تُسبب صناعة السيراميك والأسمنت ثلاثة أنواع من التحجر الرئوي: أولها المزمن البسيط، الذي ينشأ من التعرض لمدة طويلة (أکثر من 20 سنة) لکميات قليلة من غبار السيليکا، ويسبب درنات والتهابات مزمنة في الصدر والرئتين، والتحجر الرئوي المتزايد، الذي ينشأ نتيجة التعرض لکميات کبيرة من السيليکا لفترة قصيرة نسبيا (5-15 سنة)، وفي هذه الحالة، تسوء حالة الالتهابات بصورة مطردة أکثر من النوع البسيط.

أما النوع الثالث، فهو التحجر الرئوي الحاد الذي ينجم من التعرض الطويل من غبار السيليکا لفترة زمنية قصيرة، وفي هذه الحالة تلتهب الرئة بشدة، وقد تمتلئ بالماء، وتسبب ضيقا في التنفس، وانخفاضا في مستوى الأکسجين في الدم.

وفقا لقانون العمل المصرى 12 لسنة 2003، فإن المادة 211 تنص على: “التزام المنشأة وفروعها بتوفير وسائل الوقاية من المخاطر الكيميائية الناتجة عن التعامل مع المواد الكيميائية الصلبة والسائلة والغازية.

يصاب 5 إلى 15٪ من عمال البناء بأمراض جلدية؛ بسبب التعرض للأسمنت أهمها، التهاب الجلد التماسي السام، وهو تهيج موضعي للجلد، وينتج عن قلوية الأسمنت  والتهاب الجلد التماسي التحسسي؛ نتيجة التعرض لمركب الكروم القابل للذوبان في الماء الموجود في معظم الأسمنت، ويحتوي كيلوجرام واحد من غبار الأسمنت العادي على 5 إلى 10 مليجرام من الكروم القابل للذوبان في الماء.

ويقضي القانون على عدم تعرض العمال للمواد الكيميائية والمواد المسببة للسرطان، بما لا يجاوز أقصى تركيز مسموح به، وعدم تجاوز مخزون المواد الكيميائية الخطرة كميات العتبة المسموح بها لكل منها.

 السيراميك.. لا حقوق للمصابين والمرضى

تكشف دراسة لوزارة التجارة عام 2003، عن صـناعة السراميك بمصر، أن 70% من أربعين ألف عامل في مصر يعملون بمجال صناعة السيراميك مصابين بأمراض الرئة والجهاز التنفسي، تصل بعض أمراضهم إلى التحجر الرئوي، إضافة إلى الأمراض التي تصيب القاطنين بالقرب من المصانع بأمراض الربو والحساسية وصعوبة التنفس.

لم تشفع تلك الإصابات للعمال لدى إدارات الشركات ففي عام 2015، فصلت شركة “ليسكو للسيراميك” أكثر من 15 عاملًا في 2015 عقب اكتشاف إصابتهم بأمراض مختلفة، بسبب الأتربة والمواد المنبعثة من صناعة السيراميك داخل المصنع.

ويلزم قانون العمل المصانع بتوفير الاحتياطيات اللازمة لوقاية المنشأة والعمال عند نقل، وتخزين وتداول واستخدام المواد الكيميائية الخطرة، والتخلص من نفاياتها وتدريب العمال على طرق التعامل مع المواد الكيميائية الخطرة، والمـــواد المســــببة للسرطان، وتعريفهم بمخاطرها وبطرق الأمان والوقاية من هذه المخاطر”.

ورغم خطورة مهنة السيراميك التي تتطلب أجرًا عادلاً، حدثت أزمة في شركة سيراميكا كليوباترا في أعقاب أحداث يناير 2011، بسبب احتجاجات عمالية سابقة للمطالبة بصرف مرتباتهم المتأخرة، والحصول على نسبة من الأرباح بشكل تراكمي، وتحسين بدلات الغذاء والمخاطر، وحرر العمال بمصنع سيراميكا كليوباترا بالمنطقة الصناعية شمال غرب خليج السويس، عدة محاضر بقسم شرطة عتاقة، اتهموا فيها الشركة بالتعنت في صرف مستحقاتهم المالية.

بحسب الدكتور أشرف جمعة، أستاذ الأمراض الصدرية، فإن عمال مصانع السيراميك والأسمنت أكثر عرضة لسرطان الغشاء البلوري، الذي ينجم من التعرض للأفران والمواقد التى تساعد على الإصابة بأزمة وضيق فى الشعب الهوائية، موضحا أن تضاعف معدلات الإصابة بالمرض في الفترة الأخيرة في مصر؛ نتيجة لوجود مصانع صناعة الأسمنت والسيراميك.

يوضح أن العمال الذين يعملون في هذه المصانع أكثر عرضة للإصابة بالمرض مقارنة بغيرهم. يستكمل قائلا: “الأعراض التي تلازم المريض، وتعتبر دليلاً على إصابته بسرطان الغشاء البلوري: وجود ألم شديد في الصدر وزيادة معدل التنفس والتعرض بشكل مستمر لالتهابات رئوية وضيق في الشعب الهوائية”.

مطالب مشروعة للعمال

يقول عصام الطباخ، المحامي العمالي، إن جميع عمال الأسمنت وفقا للقوانين المصرية يستحقون بدل مخاطر الوظيفة بواقع ٦٠٪ من الأجر الأساسي، وبدل للإقامة بواقع ٦٠٪ من الأجر الأساسي للعاملين بالمناطق النائبة والبعيدة عن العمران، بالإضافة إلى ثلاث وجبات غذائية يوميًا عن كل يوم عمل.

وأوضح أن عدد ساعات العمل بالنسبة للعاملين بقطاع الأسمنت لا يجب أن تزيد على ست ساعات يوميا، يتخللها ساعة راحة إجبارية يتناول فيها وجبة غذائية كاملة، فهذا لم يحدث فالعامل في قطاع الأسمنت يعمل ٨ ساعات متتالية، وعندما يطالب بحقوقه المشروعة في المقابل النقدي للساعات الإضافية، يكون جزاؤه الفصل أو النقل أو ما شابه.