الطبيعي أن تكون العلاقات طبيعية، وكاملة بين مصر وإيران، مهما تكن تقلبات السياسة، وتغيرات الأنظمة، فقبل أن تكون كل منهما دولة، كانت كل منهما على فترات طويلة من التاريخ مهد حضارة، ومركز ثقافة وقلب إمبراطورية، هما من البناة الأوائل للشرق القديم، كما هما من ركائز الشرق الأوسط الحديث الذي تعود جذوره إلى مطلع القرن السادس عشر الميلادي، ومعهما من ذاك التاريخ السلطنة العثمانية .

إيران في الشرق، مصر في القلب، تركيا في الغرب، الثلاثة هم روح، أي شرق أوسط صاعد يسعى للتحرر من هيمنة الغرب، كما يسعى لسعادة شعوبه واستقرار أهله، خطوة العلاقات الكاملة مع إيران لها أهمية استئناف العلاقات الودية مع تركيا، كما لها قيمة العلاقات الأخوية مع الأشقاء العرب الذين هم حزام الأمان الذي يحيط مصر من كل جانب، فعلاقات ودية مع إيران وتركيا هي مكسب، يُضاف لمصلحة الإقليم وحصانته ومناعته، ولا معنى لأن يكون الارتباط الأخوي بين البلدان الثلاثة على حساب أحد أو ضد أحد، بل هو لصالح الشعوب الثلاثة أولاً، ثم لصالح المنطقة في كل الأحوال.

جزء من توترات العلاقات بين مصر وإيران وتركيا، منذ حصل كل بلد على استقلاله، هو عدم الوعي الكافي بحقائق التاريخ، وما انطوت عليه من وجوه التقارب والتباعد بينها في فترات مختلفة، ولو أردنا مرحلة جديدة تنمو فيها العلاقات، وتزدهر؛ فيلزمنا مراجعة التاريخ حتى نتبصر بالمستقبل، وبالذات فيما يخص وضع مصر في الإقليم ، خاصة أن إيران لها مطامح توسعية لا تخفى على الأعين، وكذلك تركيا لها حنين مضطرب لدور أكبر في مجالها القديم أيام كانت إمبراطورية، بينما مصر وصلت من النضج حد القناعة بمركز الدولة الوطنية، دون مطامح لزعامة عربية أو قيادة إسلامية، الطموح التوسعي إغراء، لا تقع فيه مصر بسهولة، لكن لا تغمض مصر عينها عن حقيقتين: الأولى أن عرب الإقليم في انقسام وتشرذم. الثانية: أن مسلمي الإقليم، أي إيران وتركيا لديهما مشاريع توسع ظاهرة أو باطنة. لكن تظل مصر- بدون طموح توسعي- تتمتع بميزتين لا تتمتع بهما إيران وتركيا، فمصر بلد سني مثل أغلبية الإقليم، وتقف شيعية إيران بتوسعها عند حدود المذهب، لا تتجاوزها، كذلك فإن مصر عربية اللسان في محيط أغلبه عربي اللسان، وهذه ميزة تفتقدها تركيا، إذ تظل اللغة حاجزاً، يصد توسعها في الإقليم.

العلاقات بين الدول الثلاث أو بالتحديد علاقات مصر الكاملة مع إيران وتركيا، ينبغي أن تكون أمراً مفروغاً منه، لكن الذي ينبغي أن يكون محل نقاش عندنا، وبيننا هنا في مصر، فهو توازن القوى سواء المادية أو المعنوية، يلزمنا نقاشا علميا جادا حول موقع مصر في الشرق الأوسط في السنوات العشر المقبلة على الأقل، موقعها بين الأشقاء العرب، موقعها بين الجوار الإسلامي، مجمل رسالتها في الإقليم، وأردت البدء بكل من إيران وتركيا؛ لأن هذه هي نقطة البداية العادلة، فالدول الثلاث مع إثيوبيا هي أوتاد الإقليم .

……………………………………………………..

في ص 39 من الجزء الرابع من تاريخ “بدائع الزهور في وقائع الدهور” يتحدث ابن إياس (1448 – 1524م)  عن أحداث العام 908 هجرية- أي ما يوافق 1502 – 1503م- حتى بلغ شهر صفر، وهنا قال ما يلي: “وفي أثناء هذا الشهر، جاءت الأخبار من حلب، أن خارجياً تحرك على البلاد،  يُقال له شاه إسماعيل الصفوي،  فلما جاءت هذه الأخبار إلى القاهرة، اضطربت الأحوال، وجمع السلطان الأمراء، وضربوا مشورةً في أمر الصفوي، وعين السلطانُ تجريدة، ثم في أثناء هذا الشهر، جاءت الأخبار من حلب، بأن عسكر الصوفي رجع إلى بلاده، وخمدت الفتنة، وبطل أمر التجريدة”. انتهى الاقتباس.

معنى هذا الكلام، أن إيران الصفوية الصاعدة في مطلع القرن السادس عشر كانت ترنو ببصرها إلى احتلال مصر، وهو ما لم يتم لها، لكنه بعد ذلك بأعوام قليلة 923 هجرية- 1517م، سقطت مصر تحت هيمنة قوة مضادة للصفويين، وهي السلطنة العثمانية، وسواء كانت مصر سقطت في يد الإيرانيين أو العثمانيين، فالمعنى واحد في كلا الحالين، كان الشرق الأوسط المملوكي في غروب، وكانت إيران الصفوية والسلطنة العثمانية كلتيهما في صعود، ودخلت القوتان الإسلاميتان في صراع عنيف؛ من أجل السيطرة على الشرق الأوسط، في ذاك القرن كان الشرق لأهله، الصراع كان بين أطرافه الثلاثة الكبرى: الصفويون في فارس، المماليك في مصر والشام، العثمانيون في آسيا الوسطى والأناضول، كانت مصر والشام هي الثمرة الناضجة التي يسعى الصفويون والعثمانيون؛ لاقتطافها واقتناصها، كان المماليك في مصر والشام يودعون أيام مجدهم العظيم في الشرق الأوسط. هذا المجد الذي وصفه ابن خلدون (1332 – 1406م) في ص 563 من المقدمة فقال: ” ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر، فهي أم العالم، وإيوان الإسلام، وينبوع العلم والصنائع “، بين وفاة ابن خلدون في 1406م، ثم وفاة ابن إياس في 1524م، كانت مقاليد القوة قد تبدلت وتغيرت، كان الصفويون من الشرق، وكان العثمانيون من الغرب، كلاهما يطمع في وراثة الإمبراطورية المملوكية الآيلة للسقوط، كانت قد اضمحلت فيها قيم الفروسية وروح المبادرة، وبراعة التنظيم ودب فيها الفساد والترهل والتحلل.

كان آخر السلاطين قنصوه الغوري (1441 – 1516م) قد تمت سلطنته بعد هروب، ثم اختفاء سلفه، وقد وقع اختيار الأمراء على الغوري، وكان في الستين من عمره، يقول ابن إياس: “قالوا- يقصد أمراء المماليك- ما نُسلطن إلا هذا، فسحبوه، وأجلسوه، وهو يمتنع من ذلك ويبكي، ويمتنع غاية الامتناع”، فلما قرر الأمراء ذلك، وهم القوة الفعلية في حكم البلاد، لم يتبق إلا إضفاء الشرعية على القرار، فاجتمع الخليفة العباسي المستكفي بالله يعقوب، وقضاة القضاة للمذاهب الأربعة، وكتب القاضي الحنبلي صورة محضر- يقصد محضر الاجتماع- في خلع السلطان الهارب المختفي، حيث شهد فيه جماعة كثيرة من الناس، أنه سفاك للدماء، ثم عُقدت البيعة لقنصوه الغوري، وبايعه الخليفة، وكانت سلطنته في يوم الاثنين، مستهل شوال سنة 906 هجرية، ثم أُحضر إليه شعار السلطنة، وهي الجبة والعمامة السوداء، فأُفيض عليه ذلك، كل هذا وهو يمتنع ويبكي، فلقبوه بالملك الأشرف، ثم دقت له البشائر بالقلعة، ونودي باسمه في القاهرة.

ثم يذكر ابن إياس ثلاث وقائع، تعطيك صورة عن مجمل الأوضاع في مصر المملوكية مطلع القرن السادس عشر، الأولى: ظهور الإمام جلال الدين السيوطي 1445 – 1505م، حيث كان هارباً من بطش السلطان، وقد ذكر السيوطي، أنه في أثناء هروبه رأى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وبشره بزوال الحاكم الظالم عما قريب. الثانية: أنه بمجرد أن تولى قنصوه الغوري زمام الحكم، حتى كثر شر المماليك عليه؛ بسبب طلبهم الأقاطيع- يقصد إقطاعات من الأراضي الزراعية- والوظائف، حتى أنه تبرأ من السلطنة، وهمَ بأن يختفي بنفسه، حتى يولي الأمراء من يختارون بدلاً منه. الثالثة: هي وفاة مطربة ذلك العهد، الفنانة عزيزة بنت السطحي، كانت من أعيان أهل الغناء في مصر، فريدة عصرها في النشيد، مع حُسن الصوت، وفصاحة في إعراب الشعر، فلم يخلفها من بعدها أحد من النساء، وحظيت من أعيان الدولة، وأربابها بغاية العز والعظمة، ما لم ينله غيرها من أرب الغناء، وماتت وهي في عشر الثمانين، وكان لها بمصر شهرة زائدة.

أردت من هذه المقدمة الأولى العودة بجذور الشرق الأوسط المعاصر- وهو شرق أوسط، صنعته أوروبا، ثم أمريكا- أردت العودة به إلى جذوره الحقيقية الكامنة في داخله النابعة من شعوبه، ومن حضاراته حيث: مصر، إيران، العثمانيون، وفي الخمسمائة عام الأخيرة، حدث ما يلي: خرجت مصر من سباق القمة مبكراً، ثم خرجت إيران لاحقاً، وقد صمد العثمانيون- منفردين- في وجه الأطماع الأوربية عدة قرون، حتى سقطت قبل مائة عام ، ومن ساعتها خلا الشرق الأوسط من مناعته الذاتية، وتم تفريغه من حصانته الداخلية، وتم غزوه وتفكيكه وتخديره وإخضاعه لأنماط مختلفة من النفوذ الغربي، حتى وصلنا إلى هنا: أمريكا من خارج الإقليم، ثم إسرائيل من داخله، تطويق من الخارج، تطويق من الداخل، ثم بدأت تنضم قوى محلية لهذا التطويق المزدوج، قوى شرق أوسطية مستجدة، ترى مستقبلها مع أمريكا وإسرائيل، ولو تتطلب ذلك الانسلاخ من الجذور.

……………………………………………………………………..

في الربع قرن الأخير، لم تكن مصر تمانع في علاقات طيبة مع تركيا وإيران، لكن السياسات الأمريكية من عام 2002 م، تقف خلف أردوغان وتنفخ فيه، ثم السياسات الأمريكية من 2001 م، حيث غزو أفغانستان ثم من 2003 م، حيث غزو العراق وهي- قصدت أو لم تقصد- تهدم أركان العالم السني، وتقدم الإقليم على طبق من ذهب لقمة سائغة للتوسع الإيراني. والآن، إذ ينكمش أردوغان فإن إيران تواصل تمددها غير المسبوق من أيام الصفويين أي من مطلع القرن السادس عشر الميلادي. ورغم ذلك فلا استغناء عن تفكير جاد في علاقات كاملة ومتوازنة مع كل منهما.

السؤال: كيف؟ وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.