رغم كل الضغوط الدولية والأمريكية على إسرائيل؛ لمنع قيامها باجتياح رفح، ورغم موافقة حماس على اتفاق وقف إطلاق النار، وعملية تبادل الأسرى رفضته إسرائيل، إلا أنها قامت بهجوم على شرق رفح، سيطرت فيه على الجانب الفلسطيني من المعبر، ونشرت دباباتها وجنودها على الحدود المصرية في مخالفة واضحة لاتفاقية كامب دافيد، وباتت تستعد؛ لاستكمال الهجوم من أجل هدف “متخيل” اسمه اجتثاث حماس.
والمفارقة أن سيطرة إسرائيل على معبر رفح، وقصف مناطق في شرق المدنية، وقتل عشرات المدنيين وتهجير جانب منهم، جاء عقب موافقة حماس على الهدنة التي اقترحتها مصر ورفضتها إسرائيل، رغم أنها على مدار الأسابيع الماضية كانت تتهم حماس بعرقة الوصول لاتفاق هدنة بين الجانبين.
وقد ظل جوهر الخلاف بين حماس وإسرائيل، يتعلق برفض الأخيرة ربط صفقة تبادل الأسري بوقف نهائي لإطلاق النار، وتمسكت بهدنة مؤقتة، بل إن نتنياهو أعلن بشكل واضح، إنه سيستأنف عملياته المسلحة بعد إتمام صفقة التبادل.
أما حماس فقد قبلت، أن يكون العنوان هو هدنة مؤقتة على ثلاث مراحل، ووضعت في المرحلة الثانية مجموعة من النقاط، يمكن أن تحول الهدنة المؤقتة إلى وقف كامل لإطلاق النار، فهي أولا تعمل على الإفراج عن 33 محتجزا إسرائيليا، مقابل أعداد كبيرة من المسجونين الفلسطينيين، تضم قادة كبار اتهمتهم إسرائيل بالإرهاب، وحكم عليهم بالسجن المؤبد، كما قبلت إسرائيل بعودة “النازحين المدنيين” إلى شمال غزة، وهو تعبير فضفاض، لأنها هي التي ستحدد، إذا كانوا مدنيين أم لا، بجانب إخلاء إسرائيل لممر “نتساريم” الذي يفصل شمالي القطاع عن باقي مناطقه، على أن يعقب ذلك مفاوضات لوقف الحرب بشكل دائم.
إن رفض نتنياهو لمقترح تبادل الأسري الذي قبلته حماس، يؤكد انتمائه لمنظومة التطرف الحاكمة، ولجمهورها الذي لا يقبل تحت أي ظرف إعلان وقف كامل لإطلاق النار، دون القضاء على حماس وتحرير الرهائن بالقوة، وفي نفس الوقت استمر نتنياهو في صراع مع التيار الداعم لفكرة القضاء على حماس، ولكنه يدعم في نفس الوقت القبول بصفقة؛ من أجل إطلاق سراح الرهائن.
جهود الوسطاء المصريين والقطريين والتدخلات الأمريكية دفعت حماس لقبول، أن يكون عنوان الاتفاق هو هدنة، ولكن على ثلاث مراحل، وتعمل في مرحلتها الثانية لدفع إسرائيل إلى قبول وقف إطلاق النار، بحيث تبدو فيها، وكأنها انتصرت، بعد أن تكون نجحت في إطلاق سراح كل الرهائن.
والحقيقة إنه على مدار أكثر من شهرين، حاولت مصر وقطر التقريب في وجهات النظر بين الجانبين، ونجحتا في حل خلافات كثيرة عالقة، تتعلق بأعداد الأسرى وأسمائهم وعودة النازحين الفلسطينيين، إلا أن تطرف الحكومة الإسرائيلية، ورغبتها إرضاء جمهورها المتطرف، وإطالة أمد الحرب حتى يبقى نتنياهو في السلطة، دفعت تل أبيب لاجتياح رفح.
لقد عادت منظومة التطرف في إسرائيل لتكرر، ما فشلت في تحقيقه على مدار ٧ أشهر، وهو تصفية السنوار وإطلاق سراح المحتجزين والقضاء على حماس، لكي تبرر اجتياحها لرفح.
يقينا، قبول حماس لهدنة مؤقتة وإفراجها عن جانب من الأسري أمر مفهوم، ولكنها لا يمكن أن تفرج عن كل الأسرى حتى تظل تمتلك أوراق ضغط على حكومة التطرف العبرية، على أمل تصاعد الضغوط الشعبية والدولية على إسرائيل، بحيث يمكن أن تتحول الهدنة المؤقتة لوقف كامل لإطلاق النار.
صحيح أن الأمور تعقدت بعد اجتياح إسرائيل لرفح، وأن دورة العنف قد تستمر لأسابيع، ما لم تنجح الضغوط الدولية في ردع إسرائيل، ويتحول الخطاب الأمريكي الرافض لاجتياح رفح من كلام يقال، إلى إجراءات تنفذ، وقد يكون القرار الأمريكي الأخير بوقف شحنة أسلحة لإسرائيل، بداية لتحول عملي في الموقف الأمريكي.
اجتياح إسرائيل لرفح ليس مجرد اجتياح لجيش احتلال في أراضي شعب آخر، إنما هو انعكاس لتوجه مجتمعي، لا يحرض فقط على الكراهية والعنصرية، إنما يعطي غطاء سياسيا لجرائم الإبادة الجماعية وقتل المدنيين، والأطفال بشكل متعمد، وإن الاستماع الدقيق لرموز منظومة الحكم والتطرف في إسرائيل، سيكشف أننا أمام خطاب غير مسبوق في تاريخ الدول الاستعمارية، التي كانت تحرص على تقديم “حجه ما”؛ لتبرير الاحتلال، فقد كان هناك مبرر سياسي استراتيجي وراء احتلال دول استعمارية كبرى لدول أضعف، فعل سبيل المثال الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، احتلت دولا كثيرة منها مصر من أجل السيطرة على طرق ملاحة حيوية، أو من أجل استغلال اقتصادي، ولم تقل أنها جاءت لإبادة الشعب المصري، أو الهندي أو اجتثاث نظام الحكم فيها، وحتى الاستعمار الفرنسي الذي ارتكب جرائم مخزية في الجزائر، حاول أن يزرع نموذج ثقافي امتدادا له، ولم يكتف بالقوة الغاشمة، أما الاستعمار الإسرائيلي فهو لا يرغب باجتياحه لرفح، أن يحرر فقط أو أساسا الرهائن أو يقضي على حماس ولا حتى ضم الضفة أو قطاع غزة لإسرائيل، إنما هدفة هو قتل وتهجير الشعب الفلسطيني، وهو نمط نادر في تجارب الاحتلال التاريخية، أن يكون الهدف هو إبادة شعب، وليس حتى استغلاله اقتصاديا وسياسيا.
ستضاف جريمة اجتياح رفح لسلسلة الجرائم التي ترتكبها دولة الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني دون محاسبة أو عقاب.