ذكرني الهجوم الحادث هذه الأيام على التنوير، بما جرى منذ ما يزيد عن المائة عام مع المرحوم أحمد لطفي السيد، حين قرر الترشح لانتخابات مجلس النواب، إذ سار منافِسُهُ بين الناس قائلًا، إن الرجل كافر، ولا يصح انتخابه، فهو يعترف بأنه ديمقراطي، وهذا إقرار صريح منه بالكفر. ما كان من الناخبين إلا وقد استشاطوا غضبًا، وانتصارًا للدين، (وهل بعد الاعتراف بالكُفر ذنب)، فقاموا بحرق وتدمير السرادق الانتخابي للمرحوم أحمد لطفي السيد؛ ليخسر المعركة الانتخابية، قبل أن تبدأ بتهمة أنه “ديمقراطي كافر”. كان المرحوم صلاح أبو سيف قد قدم مشهدًا على نفس النمط بفيلم “البداية” الذي عُرِضَ في دور السينما، منذ ما يقرب من الأربعين عامًا.

بدأ الهجوم على التنوير منذ شهور، على وقع خلاف البعض مع موقف البعض الآخر من المقاومة الفلسطينية التي تخوض واحدة من أخطر معاركها في العصر الحديث، فكان أن اتُهم التنوير والتنويريون- بلا تفرقة يستوجبها تدقيق المواقف- بخيانة القضية الفلسطينية، وكأن كل تنويري هو مُتصَهينٌ بالضرورة. دعاني ذلك لكتابة مقال، نُشِر في ذلك الوقت بموقع مصر 360*، أوضحت فيه بصفتي واحدًا من أبناء تيار التنوير بمصر، أن التنوير في ذاته ليس سوى فِعلُ مقاومة، يستخدم العقل لغرض التحرر والخلاص من الاستعباد بكل تنويعاته، سواء كان استعبادًا فكريًا، يتمثل في سطوة التراث العقلية على الحاضر والمستقبل، أو كان استعبادًا استعماريًا، يتمثل في تَحَكُم المُحتَل بمقدرات ومصائر الشعوب. وبالتالي، فإن موقف البعض السلبي من القضية الفلسطينية، ومن فِعل المقاومة في غزة لا يصح أبدًا، أن يُنسَب إلا لصاحبه القائل به، حيث يتحمل وحده أمام ضميره والتاريخ، مسئولية موقفه.

هدأت الأمور نوعًا ما، بحكم الاعتياد لا أكثر، إلى أن عاد الهجوم مشتعلًا هذه الأيام على وسائل التواصل الاجتماعي في مشهدٍ أشد مرارة في لا معقوليته وسخريته، مما حدث مع أحمد لطفي السيد، وما جاء في “بداية” صلاح أبو سيف. كان من المتوقع أن تشن القوى الأصولية هجومًا على التنوير والتنويريين، بحكم ما تحمله من قِيَّمٍ، وما تمثله من مصالح، تتناقض بالكلية مع قِيَّم التنوير، فتستخدم في سبيل ذلك، ما تيسر لها من وسائل، تبدأ بالتحقير ولا تنتهي بالتكفير، لكل من يرفع للتنوير لواءً. ما كان مُدهِشًا بحقٍ هذه المرة، هو أن الهجوم على التنوير، قد بدأ من غير الأصوليين، ممن يتحلون بالموضوعية الكافية للفصل بين العام والخاص، إلا أنهم وقعوا في فخ التعميم، فأسقطوا خلافهم مع البعض بشأن الموقف من القضية الفلسطينية، وفِعل المقاومة الشريف في غزة، على التنوير كمبدأ وكفلسفة بشكلٍ تلقائي؛ لينتهي الأمر بوصفهم تيارًا فكريًا عريضًا، يتسع بطول وعرض وعُمق الوطن، بما ليس فيه.

لم يكن ما سبق سوى مُقدمة، رأيتها واجبة كمدخل لما أود طرحه على القارئ الكريم من وجهةِ نظرٍ، تقوم على أهمية التعاطي مع التنوير بصفته مُقابلًا موضوعيًا للأصولية في الصراع العربي الصهيوني، حيث يُرَكِز التنوير على ما هو مشترك بين الناس؛ ليجمعهم في سياق واحدٍ مُتصلٍ بلا تفرقة على أساس الدين أو العِرق أو اللغة، على خلاف الأصولية التي تُزكي التطرف والطائفية والعنصرية، وهي عناصر لا غنى لأي أصولية عنها. فكما اعتمدت الحركة الصهيونية على تلك العناصر في تأسيس دولتها واستمرار وجودها، اعتمدت الأصولية الإسلامية عليها أيضًا في تأسيس حركتها؛ لتقدم نفسها بديلًا للمشروع القومي العربي شِبه العلماني، الذي أخفق في حماية فلسطين من السقوط في 1948، ثم شهد هزيمة كارثية في 1967، لم يتمكن انتصار 1973 من محو آثارها الفكرية. صارت الأرض شديدة الخصوبة؛ لتقبُل هذا البديل الذي طرح نفسه للتصدي للمشروع الصهيوني الذي أوغل في التطرف والعنصرية، فدفعت الأصولية والأصولية المضادة بالحركة التنويرية إلى خلفية المشهد متواريةً في واقعٍ جديد. ولعل المراقب يلحظ في هذا السياق التاريخي، أنه على الرغم من أن الأصولية الإسلامية بوصفها مقابلًا موضوعيًا للأصولية الصهيونية، كان ينبغي أن تقدم نفسها من الداخل الفلسطيني، باعتبار أن الفلسطينيين هم الذي يقبضون على جمر المعاناة اليومية، وباعتبار أن إيمانهم بالقومية العربية قد آل بهم إلى فقد مزيد من الأرض، وانتهى إلى مزيد من التشتت، ما يدفعهم نظريًا لتبني مشروع ثقافي آخر، إلا إن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا. فقد نشأت الأصولية الإسلامية في صورتها الجديدة، من داخل مجتمعات دول الطَوق الفلسطيني، ثم غادرت تلك المجتمعات بدعم محلي ودولي، فتمركزت في مجتمعات أخرى مثل، أفغانستان وباكستان؛ لتعود مع زوال الاتحاد السوفيتي لبلادها مُحَمَلَةً بمشروعٍ تكفيري، دفعت هذه البلاد ثمنًا باهظًا فيه، وقد تجلت أهم صُوَرِه في اغتيال تلك الأصولية للمرحوم الرئيس أنور السادات في 1981، الذي كان واحدًا من أهم داعميها، إلا أن الأوان كان قد فات حين أدرك خطورتها. (مقاربة تاريخية: احتفت بعض القوى المدنية التي حملت- تاريخيًا- لواء التنوير في أكتوبر 1981، باغتيال الأصولية الإسلامية للمرحوم الرئيس أنور السادات، كما فعل بعضها حاليًا بالهجوم على تيار التنوير، ودون التفرقة بين فلسفة التنوير في العموم وبين مواقف من يختلفون معهم).

الأصولية الصهيونية في تقديري، يلزمها وجود أصولية مضادة، تتغذى عليها؛ كي تستعيد رصيدًا دوليًا، خسرته في مذابحها ضد الشعب الفلسطيني بغزة. ولا سبيل للحيلولة دون ذلك، إلا بتعميق التنوير الذي يُعلي من قِيَّم المساواة والمواطنة، وإعمال العقل في دراسة التراث، وتنقيته بما يتلاءم وظروف العصر، وبما يدعم المطالب المشروعة للشعوب، وعلى رأسها حق الشعب الفلسطيني في الحياة بدولة، يحدد هو وحده، دون وصاية من أحد، شروط تأسيسها وأساليب عملها. وهو ما يستدعي من كل القوى الداعمة للحق الفلسطيني، ضبط المصطلحات والمفاهيم، والتنبه للمخاطر المحيطة من خلال عدم خلط العام بالخاص، مع تحديدٍ واضح لأهداف المرحلة، يقوم على الفصل بين ما هو رئيسي وما هو ثانوي من التناقض.