قبل ربع قرن قال لي وزير من السودان الشقيق، إن علاقات بلاده مع إيران شهدت موجة تفاؤل بعد قيام نظام إسلامي في السودان في صيف 1989م، وبالفعل توثقت العلاقات، ثم لم يمض وقت كثير، حتى اكتشف حكام السودان، أن ثمة تسللاً كثيفاً لأنشطة نشر المذهب الشيعي الاثني عشري، المذهب الرسمي للدولة في إيران مع ترويج نظرية ولاية الفقيه، وهي الأيديولوجيا السياسية لنظام الحكم الثوري الإسلامي في إيران، كان بين النظامين الإسلاميين في إيران والسودان فارق عشر سنوات فقط، من نجاح الثورة الإسلامية في إيران 1979م، إلى نجاح تحالف الإسلاميين والعسكريين في انقلاب على الديمقراطية 1989م، وقد حمل الانقلاب لقب ثورة، وظل يحكم السودان ثلاثين عاماً. لم تكن إيران في حاجة لتصدير الثورة ذاتها، ما دام النظام في السوداني، يعلن وجهاً ثورياً بطبيعة الحال، فاكتفت بمحاولات تصدير المذهب الديني، والأيديولوجيا السياسية. الشعب السوداني- بطبيعته- من أعمق وأذكى الشعوب العربية ثقافةً وتفكير وتنوراً وانفتاحاً على كل الثقافات، شعب له مزاج ليبرالي حر، بما في ذلك قواه الفكرية التقليدية المحافظة من فقهاء وصوفية، ليبرالية السماحة والبساطة المحببة، فضلاً عن قواه الحديثة ذات الثقافة البريطانية على وجه الخصوص، ثم قواه اليسارية ذات الجذور في تاريخ السودان الحديث، فضلاً عما أنتجه الجوار مع مصر والموقع في قلب إفريقيا من طبائع مخصوصة للثقافات السودانية على تنوعها، وتعدد روافدها. كل أولئك لم يُخفوا انزعاجهم من التسلل الإيراني.

كانت مصر على وعي كامل بذلك، لكنها عند خاتمة الألفية الثانية سعت مساعي جادة؛ لاستئناف العلاقات مع إيران، كانت مصر في أواخر التسعينيات من القرن العشرين تبدو مستقرة واثقة من نفسها متماسكة، فقد استعادت العلاقات العربية التي انقطعت في أواخر عهد الرئيس السادات على خلفية اتفاق السلام المصري- الإسرائيلي، كما حافظت على السلام مع إسرائيل، لكن من نوع السلام البارد، دون إسراف في تطبيع العلاقات، وضبطت إيقاع العلاقات مع العرب، فلا هي تسعى للزعامة، ولا هي تفقد هيبتها أو مكانتها كالدولة الأكبر، والأعرق والأكثر حداثة والأعظم دوراً ، وصلت إلى نقطة توازن بين السعي للزعامة الذي مثله الرئيس عبد الناصر، ودور الانسحاب والعزلة الذي انزلق إليه الرئيس السادات بعد زيارة القدس 1977م، فلا هي تطلب دور القيادة، ولا هي تتخلى عن دورها كشقيق أكبر، كذلك نجحت مصر في تسعينيات القرن العشرين في نسج خيوط علاقات متينة مع تركيا، بما في ذلك الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان، ساعد على ذلك التخفف من حجم كبير من الديون الخارجية بعد حرب استرداد الكويت من الاحتلال العراقي عند مطلع العقد، ثم لحق به إصلاح اقتصادي- مع البنك الدولي وصندوق النقد- معتدل الإيقاع متوازن الخطى، يعرف متى يتحرك ويستجيب، ومتى يقف، حتى لا يزيد من الأعباء على كواهل الطبقات الوسيطة والفقيرة، كانت في مصر في ذلك الوقت كفاءات رفيعة المستوى في الدبلوماسية، تعرف كيف تفتح الملف الإيراني، دون استثارة الحزازات الإقليمية والدولية، كانت مصر في وضع يسمح لها بخطوة جريئة من هذا النوع، بل كانت هذه الخطوة هي التطور الطبيعي؛ لاستكمال منظومة العلاقات المصرية مع المحيطين العربي والإسلامي، سواء منها ما تضرر بسبب الثورة الإسلامية في إيران، أو ما تضرر بسبب مبادرة السلام،ثم المعاهدة، ثم الاتفاقية في أواخر عهد الرئيس السادات.

مثلما كانت عند قيادة الدولة سياسة خارجية واضحة تسعى؛ لاستكمال منظومة العلاقات المصرية مع كافة الدول العربية والإسلامية، ومثلما كان في الخارجية المصرية دبلوماسيون على مستوى رفيع من المهنية والاحتراف، ومثلما كانت مصر في وضع من الاستقرار الداخلي، والانسجام الإقليمي يسمح لها بالتحرك الواثق، كذلك كانت فيها مراكز أبحاث، سواء في الجامعات أو خارجها، توفر الكوادر الفنية الرديفة التي تدعم التحرك بالعلم والمعرفة ومهارات التحاور والتواصل. ففي صيف عام 2000 م، أرسلت مصر إلى إيران وفداً من الخبراء والباحثين من ثلاثة مراكز بحثية مهمة، مركز البحوث والدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، مركز الدراسات الآسيوية بجامعة القاهرة، مركز الدراسات الإيرانية بجامعة عين شمس، ترأس الوفد الدكتور عبد المنعم سعيد، وكان في عضويته عدد من أكابر الباحثين المصريين، وهم- بدون ألقاب- السيد يسين، وحيد عبد المجيد، حسن أبو  طالب، محمد السعيد إدريس، محمد السيد سليم، محمد السعيد عبد المؤمن. وكما جاء في كتاب صدر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام عام 2002 م، عنوانه “تطوير العلاقات المصرية الإيرانية”، فقد عقد الوفد المصري ندوة مشتركةً في طهران، ناقشت الرؤى المصرية- الإيرانية المتبادلة، كيف يرى كل من البلدين الآخر، كيف ترى مصر إيران، وكيف ترى إيران مصر، وكيف تفهم كل منهما الأخرى؟ فضلاً عن محاولة استكشاف الآفاق التي يمكن أن تتطور إليها العلاقات المصرية- الإيرانية، لذا لم يكتف وفد الخبراء والباحثون المصريون بمجرد لقاء نظرائهم في مناقشات وأبحاث الندوة العلمية، لكن أجروا عدداً من اللقاءات مع العديد من كبار المسئولين في إيران، ويذكر الكتاب، أن الوفد المصري تأكد من وجود حرص إيراني قوي، ليس فقط على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بل وعلى تطوير هذه العلاقات، حتى تُصبح نموذجاً، لما يجب أن تكون عليه العلاقات الإقليمية، وخاصة بين الأشقاء.

ثم في صيف العام التالي 2001م، جاء وفد إيراني إلى القاهرة من معهد الدراسات السياسية والدولية التابع لوزارة الخارجية الإيرانية، يترأسه السيد صادق خرازي مساعد وزير الخارجية الإيراني، ويضم- بدون ألقاب- سيد كاظم سجاد بور مدير عام المعهد، أبو القاسم قاسم زاده المستشار بوزارة الخارجية، جميلة كديفور عضو مجلس الشورى الإيراني عن دائرة طهران، علي أصغر محمدي دبلوماسي بوزارة الخارجية، مُجتبى فردوسي بور مدير مركز دراسات الخليج والشرق الأوسط بالمعهد، حُميرا مشير زادة الخبيرة بالمعهد، وعلي زادة الدبلوماسي بوزارة الخارجية- عضو بعثة رعاية المصالح الإيرانية بالقاهرة. وقد درات ندوة القاهرة على ثلاثة محاور: 1- النظام العالمي والفرص المتاحة؛ لتطوير العلاقات المصرية- الإيرانية . 2 – المتغيرات الإقليمية وتأثيرها على العلاقات المصرية- الإيرانية . 3 – العلاقات الثنائية المصرية- الإيرانية.

وكان قد تم التمهيد لتلك المساعي بعد مبادرات بحثية مهمة من مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام وهي: تأسيس البرنامج العلمي للدراسات الخليجية، ومنها إيران، وإصدار مطبوعة “مختارات إيرانية” تركز على المواد العلمية والصحفية المنشورة باللغة الفارسية، وفتح قنوات للحوار مع معهد الدراسات السياسية، والدولية التابع لوزارة الخارجية الإيرانية. هذا فضلاً عن حركة نشطة لترجمة الكثير من المؤلفات الإيرانية المهمة، بما فيها ديوان شعر منسوب لقائد الثورة الإيرانية الإمام الخميني، وعدد كبير من أمهات الكتب في التاريخ الإيراني، والأدب والشعر إلى آخره، ومن كان يقوم بالترجمة والنشر هي مراكز ثقافية حكومية مصرية.

السؤال: لماذا إذا كانت مصر في ذاك التوقيت من مطلع الألفية جادة، وكذلك إيران كانت حريصة، فلماذا لم تتواصل المساعي، بحيث تصل إلى غاية المراد؟ ثمة إجابتان: اعتراض أمريكي وراءه إسرائيل مع حزازات خليجية، ولست أنفي هذه الاعتراضات، لكن استبعد أن تكون السبب. أما الجواب الثاني، وهو الأرجح، فهو أن مصر من بعد عام 2001م، دخلت في عقد مضطرب، فقدت فيه حالة التوازن والانسجام التي تمتعت بها طوال عقد التسعينيات من القرن العشرين، اضطربت علاقات مصر مع الأمريكان، عندما رفضت أن تشارك بعناصر مقاتلة من قواتها المسلحة في حرب أمريكا على أفغانستان 2001م، ثم تكرر الرفض في حرب أمريكا على العراق 2003م، ففتح الأمريكان أبواب الجحيم على الرئيس مبارك، ورأوا أن يلغوا كفالتهم له، ويرفعوا ضمانتهم عنه، ويتركوه بغير ظهيرهم الدولي المكين، زاد من ذلك اضطراب داخلي، تسبب فيه الحاكم بنفسه، عندما أشرك نجله معه في مهام الحكم وإدارة الدولة، بما أوحى بضعفه وشيخوخته وعجزه عن مزاولة مهمات عمله بنفسه، ثم بما أوحى به من احتمالات توريث السلطة في نظام جمهوري، توازن مبارك في العقد الأخير من القرن العشرين، انقلب إلى النقيض، انقلب إلى اضطراب متصاعد ضده من الخارج، والداخل ففقد روح المبادرة اللازمة على اتخاذ قرار بحجم استئناف العلاقات مع بلد مهم مثل إيران.

ماذا نستفيد من هذه التجربة؟

هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.