قرار الحكومة المصرية بمشاركة جنوب إفريقيا في دعواها التي رفعتها ضد إسرائيل، تتهمها بارتكاب جريمة إبادة جماعية، ينطبق عليه مقولة، أن “تأتي متأخرا أفضل من ألا تأتي أبدا”.
والحقيقة أن النقاش “غير الصحي” الذي دار في مصر، كان بين من روج أن البديل في مواجهة إسرائيل، هو إعلان الحرب على إسرائيل، وهو أمر لم يطرحه غالبية، من انتقدوا الأداء المصري، واعتبروا أن مشكلته الأساسية في عدم فاعليته، وعدم إقدامه على خيار “الاعتدال الفاعل” الذي يقوم على حملات دولية مدنية وسياسية وقانونية في مواجهه إسرائيل.
لقد انتظرت مصر كثيرا، حتى أعلنت تضامنها مع جنوب إفريقيا في دعوتها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، فقد كان موقفها “رد فعل”؛ لادعاء إسرائيل أكثر من مرة، بأن مصر هي المسئولة عن إغلاق معبر رفح، وكان المفروض منذ اليوم الأول لبداية العدوان الإسرائيلي، أن توثق مصر بالصوت والصورة ما يجري عند المعبر؛ لإثبات المسئولية الإسرائيلية عن إغلاقه، ومنع تدفق المساعدات الإنسانية للقطاع.
والحقيقة أن مشكلة خيار الاعتدال في صورته المصرية لا تكمن، في إنه لم ينتقل لخيار الممانعة أو المقاومة المسلحة، إنما في عدم فاعليته، حتى في ظل احتفاظه بتوجهه السلمي واتفاقية كامب ديفيد.
أما تيار الاعتدال الفلسطيني في طبعته الأولى أثناء قيادة ياسر عرفات فقوته، تكمن في أنه اعتبر النضال الشعبي والمدني ورقة ضغط على الدولة العبرية، واختار مسار التسوية السلمية الذي تبلور في أعقاب انتفاضة شعبية كبيرة وملهمة، وهي انتفاضة الحجارة في 1987، والتي بفضلها دخلت منظمة التحرير الفلسطينية مسار التفاوض السلمي، وهو يملك ورقة الإرادة الشعبية، ووقعت على اتفاق أوسلو في 1993، وصُنفت بعدها ضمن تيار الاعتدال، بعد أن كانت تحسب على قوى الممانعة تشددا، واعتبرتها أمريكا وإسرائيل ضمن الإرهابيين.
أما نقطة ضعفه الرئيسية؛ فتمثلت في تحول مؤسسات سلطته إلى كيانات بيروقراطية، فيها كثير من الترهل، وسوء الأداء، وتعاملت من حيث الشكل، كأنها دولة، في حين أنها حصلت على حكم ذاتي وأدارت ولم تحكم الضفة الغربية، وغزة (قبل أن تسيطر عليها حماس في 2007)، وفقدت جزءا كبيرا من حاضنتها الشعبية التي دعمتها عقب انتفاضة الحجارة، وانتفاضة الأقصى (2000) والتي ذهبت، إما لتنظيمات المقاومة المسلحة أو تمسكت بنضالها الشعبي والمدني ضد الاحتلال، ولكن من خارج أطر السلطة الفلسطينية.
يقينا إسرائيل مسئولة عن إضعاف تيار الاعتدال وإغلاق طريق التسوية السلمية وحل الدولتين، ببناء المستوطنات في الضفة الغربية ومضاعفة أعداد المستوطنين وقمع العمل المدني الفلسطيني وبناء نظام عنصري عسكري، يقهر ويعتقل ويقتل، حتى من لم يحملوا سلاح، ويقضي على طموحات الشعب الفلسطيني في بناء دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
أما تيار الاعتدال العربي، فقد تميز بجوانب قوة كثيرة وأيضا جوانب ضعف، وخاصة في السنوات الأخيرة، فقد وضع الرئيس الراحل أنور السادات جوهر مشروع هذا التيار بتوقيعه على معاهدة سلام منفردة بين مصر وإسرائيل، أعادت لمصر سيناء، ولكنها لم تحل القضية الفلسطينية، ثم جاء عصر الرئيس مبارك الذي تحرك من أجل إنقاذ مسار التسوية السلمية عقب تفجر العنف في الأراضي الفلسطينية، وعقد في شرم الشيخ مؤتمر صناع السلام في ١٩٩٦ برعاية مصرية أمريكية، وحضره الرئيس الأمريكي كلينتون والروسي يلتسين والفرنسي شيراك والملك عبد الله وياسر عرفات، وغيرهم من قادة العالم العربي والعالم ووقع على بيانه الختامي الرئيسان المصري والأمريكي، وأكد على رفض الإرهاب وحق الفلسطينيين في العيش بسلام وفق حدود آمنه.
ثم عاد، وأطلق الملك الراحل عبد الله عقب انتفاضة الأقصى ودخول مسار أوسلو إلى غرفة الإنعاش مبادرة السلام العربية في ٢٠٠٢، التي أعلنت في مؤتمر القمة العربية في بيروت، ونصت بشكل واضح على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، بما فيها الجولان وإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع عاصمتها القدس الشرقية في مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وهنا سنجد أن المواقف والمبادرات العربية والمصرية كانت ملتزمة بقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، في حين أن إسرائيل لم تلتزم بأي من هذه القرارات، ولم يحاسبها أحد، لأنها ظلت دولة استثناء فوق القانون الدولي والشرعية الدولية.
أما جوانب الضعف فقد اتضحت في الفترة الأخيرة، حين تجاهلت نظم الاعتدال العربية، وخاصة في مصر ورقة الضغوط الشعبية والمدنية التي اعتمدت عليها منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضتها قبل التوقيع على اتفاق أوسلو، خاصة بعد الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين في قطاع غزة، وتحرك العديد من الدول؛ لمواجهتها مثل جنوب إفريقيا، والتي لا تنتمي لمحور الممانعة بأي حال من الأحوال، بجانب الاحتجاجات الشعبية في العديد من عواصم العالم، والتي مثلت ورقة ضغط على كثير من الحكومات، وخاصة الغربية من أجل اتخاذ مواقف أكثر تشددا تجاه ٌإسرائيل..
إن تبني مصر لخطاب “الاعتدال الفاعل” سيعني الانشغال بامتلاك أدوات مدنية وشعبية وضغوط قانونية وسياسية في كل المحافل الدولية؛ لمناهضة الاعتداءات الإسرائيلية، وإن خطوة الذهاب إلى محكمة العدل الدولية بعد أكثر من ٧ أشهر على ارتكاب إسرائيل جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة متأخرة، ولكنها في الاتجاه الصحيح.
لا يجب أن يكون النقاش حول أداء الحكم في مصر تجاه حرب غزة بين خيار الحرب والسلام، إنما يجب أن يكون بين نمطين للمقاومة أحدهما، لا يجب أن تختاره مصر، وهو المقاومة المسلحة، والثاني، يجب أن تذهب إليه وهو المقاومة المدنية والسياسية، وتفعل مثل جنوب إفريقيا وكثير من عواصم العالم التي صارت منصات سياسية وقانونية حقيقية في مواجهه جرائم إسرائيل، وإن إدارة معبر رفح بشكل مختلف وتوثيق مصر، ما تفعله إسرائيل في الجانب الفلسطيني من المعبر، يمثل خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح.