لم يكن يشك أحد من الذين عانوا النزوح الإجباري من أراضيهم وبيوتهم تحت إرهاب السلاح ومذابحه الجماعية، أنه سوف يعود إليها بعد أيام وأسابيع.

أغلقوا الأبواب واحتفظوا بمفاتيحها:

“سوف نرجع عما قليل إلى بيتنا

عندما تفرغ الشاحنات حمولتها الزائدة”!

كانت نكبة عام (١٩٤٨) بأجوائها ونتائجها صدمة هائلة في العالم العربي كله.

“لا تكتب التاريخ شعرا، فالسلاح هو المؤرخ”.

من النكبة المروعة حتى حرب الإبادة على غزة، حافظ الفلسطينيون على قوة الذاكرة، حتى لا تتكرر مأساة النزوح مرة أخرى.

بأبسط وأوضح المعاني وأكثرها عمقا ونفاذا في الضمير الإنساني، صاغ “محمود درويش” تجربة أسرته في ديوان: “لماذا تركت الحصان وحيدا؟”.

أجاب والده: على سؤال الابن الصبي، كما صاغها شعرا:

“لكي يؤنس البيت، يا ولدي

فالبيوت تموت إذا غاب سكانها”

نزحت أسرته، مع من نزحوا من قرية “البروة” بالجليل إلى مخيم لاجئين في لبنان، قبل أن تتسلل بعد نحو عام عائدة إلى الجليل، حيث عاشت في قرية أخرى بالقرب من بيتها القديم، الذي لم تعد إليه أبدا.

“سوف تكبر يا ابني،

وتروي لمن يرثون بنادقهم

سيرة الدم فوق الحديد..”

كانت تلك وصية أثبتت صحتها الأيام، والتحديات والحروب، التي تلاحقت وأوجعت وأسقطت عشرات الآلاف من الشهداء.

لم يترك الفلسطينيون هذه المرة الحصان وحيدا، هدمت بيوتهم، جاعوا وتشردوا، لكنهم تشبثوا بالأرض، كأنهم قد توحدوا بها.

بأجسادهم، كما بنادقهم، منعوا نكبة ثانية بالتهجير الإجباري من غزة إلى سيناء.

إنه الاحتكام إلى السلاح مجددا، مضافا إليه درس التاريخ.

نشأت الدولة العبرية بالسلاح، وبقيت بالسلاح، وكان السلاح وحده ضمان وجودها.

نظرية الأمن الإسرائيلي تأسست على استخدام الحد الأقصى من الترويع والإرهاب وارتكاب المذابح.

في الحرب على غزة، حاولوا بالحد الأقصى من الترويع والتقتيل استعادة، ما تقوض من هيبة سلاح في السابع من أكتوبر (2023) دون جدوى حتى الآن.

بأي قياس يصعب مقارنة مذابح (1948) بالمذابح الحالية.

في مذبحة دير ياسين، أخطر وأبشع مذابح النكبة، اختلفت التقديرات في أعداد ضحاياها، أكد بعضها أنهم 360 ضحية، كما لم تكن هناك صور، تنقل إلى العالم، لتروي وتشهد وتدين لحظة الحدث الدموي.

بعد ستة وسبعين عاما، عاد الإسرائيليون إلى استراتيجية الترويع والتقتيل الجماعي بصورة أخطر وأفدح”؛ لإخلاء غزة من أهلها.

إنها الإبادة والتجويع، وجعل الحياة شبه مستحيلة؛ لتكرار النكبة مرة ثانية، غير أن قوة الذاكرة استدعت التشبث بالأرض تحت أسوأ الظروف.

هذه المرة تكفّلت الوسائل الحديثة بنقل الصور على الهواء مباشرة إلى كل مدينة وقرية وبيت، وأثبتت من دون ادّعاء عمق المعاناة الفلسطينية كشعب، يعاني تمييزاً عنصرياً، وترتكب بحقه جرائم ضد الإنسانية.

أُحيت القضية الفلسطينية من جديد، انتصرت استراتيجيا وأخلاقيا، كما لم يخطر على بال أحد.

السؤال الآن: من يتحدث باسم الألم الفلسطيني؟

إنه الألم نفسه منقولا إلى العالم بأبشع الصور والعذابات الإنسانية.

بعد هزيمة يونيو (١٩٦٧)، تبدت ظاهرة أدباء الأرض المحتلة أمام الرأي العام العربي، كأنها أقرب إلى عوالم السحر في لحظة ألم عميق وشبه يأس.

كان ميلادها تعبيرا عن المخزون الإنساني والحضاري الفلسطيني، وقدرته على الإبداع والإلهام في أحلك الظروف.

لم تنشأ من فراغ، ولا احتكرها شاعر واحد، مهما بلغت قيمته.

بالتاريخ والسياق، تبدت أسماء ذات شأن مثل “راشد حسين” و”فدوى طوقان” و”معين بسيسو” و”توفيق زياد”.

كان الروائي والمناضل “غسان كنفاني” من موقعه في بيروت أول منصة مسموعة أشارت إلى شعراء الأرض المحتلة، الذين بزغوا بعد “يونيو”.

وكان الناقد الأدبي “رجاء النقاش” من موقعه في القاهرة أول من كتب عنها بتوسع، لفت الانتباه إليها ودعا لاحتضانها.

بوصف “محمود درويش” فإنه: “من علم أجنحتي الطيران”.

عندما يجر الحديث عن ظاهرة شعراء الأرض المحتلة، فإن اسمي “محمود درويش” و”سميح القاسم” يتصدران الذاكرة، كأنهما توأم ملتصق، أو “شطرا برتقالة” كما عنونا مساجلات بينهما، وتجربة واحدة وشاهد واحد على العذاب الفلسطيني.

عالمهما تداخل بصورة مثيرة في روح القصيدة.

فـ “درويش” الذي كتب: “عابرون في كلام عابر”، هو نفسه “سميح” الذي كتب: “كل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جنهم”.

كانت قضية “محمود درويش”، مع أبناء جيله من شعراء الأرض المحتلة، أن يقولوا للعالم: نحن هنا ولنا قضية، اغتصبت أرضنا، وجرت جرائم وحشية ضد الإنسانية، ونحن نستحق الحياة.

كتب بأسلوبه النثري الرفيع، الذي يضاهى شعره رفعة وتأثيرا، وثيقة الاستقلال الفلسطيني التي أعلنت في الجزائر بثمانينيات القرن الماضي، وأثارت جدلا وخلافا عميقين، قبل أن يُقدِم “ياسر عرفات” على توقيع اتفاقية “أوسلو”.

شأن أي مبدع حقيقي، فإنه لم يخذل شعره ولا قضيته، كما يعتقد فيها.

“لم تقاتل؛ لأنك تخشى الشهادة، لكن عرشك نعشك

فاحمل النعش؛ لكي تحفظ العرش، يا ملك الانتظار

إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار”.

وقد كان.

لا أدرى كيف استقبل “عرفات” تلك القصيدة الأقرب إلى مرثية، ولا كيف قرأ الأبيات التي قال فيها ابنه الروحي، أعرشه هو نعشه؟

عندما قال الزعيم الفلسطيني بعد الوصول إليه بالسم: “بل شهيدا.. شهيدا.. شهيدا”، ربما كانت في مخيلته هذه الأبيات.

لعله أراد أن يرد: “لست هذا الرجل”.

كان “درويش” مأخوذا في تجربته الإنسانية بـ “الأم الشاهدة” “لا تعتذر إلا لأمك”.’

وكان مأخوذا في تجربته الشعرية بـ “الأم الملهمة” “ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى”.

لم يكن الطفل الصغير ينام، قبل أن تأخذه أمه في أحضانها، وهي تنشد من الذاكرة، أو تبدع على السجية أزجالا وتهاليل.

عندما مات صيف (2008) إثر عملية جراحية في القلب، كانت “الست حورية” في الثالثة والتسعين من عمرها.

“وأعشق عمري؛ لأنى إذ مت،

أخجل من دمع أمي”.

كان مسكونا بشيء ما غامض، يقول له إنه سوف يموت قبل أمه.

“فأنا لا أريد

من بلادي التي سقطت من زجاج القطار

غير منديل أمي وأسباب موت جديدة”.

في قصيدة “خذني معك”، التي كتبها توأمه الشعري والإنساني “سميح القاسم” بعد رحيله:

“تسأل صارخة دون صوت، وتسأل أين أخوك؟”.

“تزلزلني أمنا بالسؤال؟ فماذا أقول لها؟”.

لم يكن ما أنشده “القاسم” تخيلا شعريا بقدر، ما كان تجربة حقيقية عليها شهود وتسجيلات.

ضمته “حورية” إلى أحضانها، وهو بين دموعها، يرثي عمره.

طرحت أسئلة الفراق، وأجابت عليها زجلا، وهو لا يدري ماذا يقول.

“قولوا لأمي الله يصبرها

وعلى فرقتي ما أقوى جبايرها”.

“أنا أبكي على ابني ياللي فارقني

فارقني في ليل، ما ودع فيه حدا”.

كان ذلك مشهدا تراجيديا، يليق بشاعر استثنائي حاول بقدر موهبته، أن يحفظ للذاكرة الفلسطينية عنفوانها وقدرتها على التشبث بالأرض، ألا تترك الحصان وحيدا مرة أخرى!