نظم قانون الإجراءات الجنائية قواعد الضبطية القضائية، وحدد الموظفين العموميين الذين لهم صفة الضبطية القضائية، ولكنه توسع في نهاية المادة 23 من القانون، بأنه قد أفرد بشكل غير محدد، بقوله: “ويجوز بقرار من وزير العدل بالاتفاق مع الوزير المختص تخويل بعض الموظفين صفة مأموري الضبط القضائي بالنسبة إلى الجرائم، التي تقع في دائرة اختصاصهم، وتكون متعلقة بأعمال وظائفهم، وتعتبر النصوص الواردة في القوانين والمراسيم والقرارات الأخرى؛ بشأن تخويل بعض الموظفين اختصاص مأموري الضبط القضائي بمثابة قرارات صادرة من وزير العدل بالاتفاق مع الوزير المختص”.

وهذا النص بإطلاقه الغير مبرر، وتوسعه بصورة واسعة، كان نتاجه الأخير أن منح الضبطية القضائية للعاملين بالهيئة العامة للطرق والكباري، لضبط المخالفات أو الجرائم التي تقع بالتعدي على هذه الأملاك، كما سبق ومنحت الضبطية القضائية لبعض العاملين بجهاز حماية المستهلك، وكذلك لبعض العاملين بالكهرباء، والري، والشهر العقاري، والسياحة.

وكأن السلطة المختصة من الأصل لن تقوم بواجباتها، أو تحتاج لمن يعاونها في القيام بمهامها الأساسية، وهي حماية الأمن الاجتماعي وحراسة الأموال العامة، وضبط الجرائم والفاعلين المتهمين بقيامهم بالتعدي على الأموال والممتلكات العامة. هذا بخلاف بعض القوانين الأساسية التي منحت الضبطية القضائية الكاملة للقوات المسلحة، وهو في القانون الذي أطلق عليه قانون حماية المنشآت العامة، والذي صدر أول مرة في صورة مؤقتة، إلى أن تم تعديله، وبات قانوناً عاماً.

فمن تبقى من الجهات العاملة، لم يتم منحه صفة الضبطية القضائية؟ ولماذا كل هذا التوسع في منحها؟ وهو الأمر الذي يخرج بالقطع عن حدود الاستثناء الوارد بنص المادة 23 من قانون الإجراءات الجنائية، والذي لم يكن يتصور واضعوه بحال من الأحوال، أن يتم استخدامه بهذه الطريقة وبهذا النمط، إذ أنه بالكاد لا يمكن تصور وزارة، ليس ممنوح لبعض العاملين بها صفة الضبطية القضائية.

وقد سبق، أن تعرضت محكمة القضاء الإداري لطعن على قرار بمنح الضبطية القضائية، يحمل رقم 46282 لسنة 66 قضائية، قضت حينها المحكمة بوقف تنفيذ شقه المستعجل، وقد ذكرت المحكمة في تسبيب حكمها بقولها: وحيث أن المستقر في الفقه والقضاء الجنائيين، أن الإجراءات الجنائية يسودها مبدأ الشرعية، وأن بين الشرعية في قانون العقوبات والشرعية في قانون الإجراءات الجنائية صلة وثيقة، فهما ينتميان إلى “الشرعية الجنائية”، وتعتبر الشرعية الإجرائية البيئة الطبيعية والمنطقية للشرعية العقابية، بحيث لا تكفي الثانية لحماية الحقوق الفردية والحريات العامة، ما لم تساندها الأولى، وأنه إذا كانت الشرعية في قانون العقوبات، تعني أن القانون المكتوب هو مصدر التجريم والعقاب، فإن الشرعية الإجرائية، تعني كذلك أن القانون المكتوب هو بدوره مصدر الإجراءات الجنائية، فهذه الإجراءات تنطوي في أغلبها على القهر والقسر إزاء المتهم، بل وإزاء غيره في بعض الحالات، وتتضمن خرقاً لحقوق أساسية للأفراد، وهذه الإجراءات تتخذ إزاء أشخاص، لم تثبت بعد إدانتهم، بل وقد تثبت فيما بعد براءتهم، ومن ثم تعين أن يكون التشريع مصدرها، ولا تعني الشرعية الإجرائية فحسب، اشتراط أن يقرر القانون الإجراء، بل أنها تتطلب– كذلك– أن يحدد القانون في وضوح الشروط الشكلية والموضوعية المتطلبة؛ لاتخاذ الإجراء بحيث لو أُغفِلت صار الإجراء باطلاً.

كما أنه يعتبر موضوع الرقابة على أعمال الضبطية القضائية؛ نتيجة حتمية لتوسع القانون في صلاحيات رجال الضبط القضائي، حيث اقتضى هذا التوسع رسم حدود معينة، يتم مباشرة هذه الصلاحيات في إطارها، ومن ثم التحديد الدقيق والتفصيلي للمهام التي منحهم إياها القانون، بل تعدى الأمر ذلك إلى تنصيب جهات معينة، تتخذ من الرقابة على أعمال هؤلاء، وظيفة أساسية لها، وذلك هو التطبيق السليم للقانون.

وإذ تتعاظم مخاطر الإسراف في منح الضبطية القضائية في ظل السلطات التي تخولها هذه الصفة، لمن يتمتع بها، فله سلطة القبض في أحوال معينة، وتحرير محاضر رسمية، تكون حجة في إثبات ما ورد بها، وله سماع أقوال المتهم والشهود، وقد يرى بعض المتخصصين، إن مأموري الضبط القضائي يخضعون للرقابة والمساءلة، فهم يتبعون النائب العام، ويخضعون لإشرافه فيما يتعلق بأعمال وظائفهم، وللنائب العام أن يطلب إلى الجهة المختصة النظر في أمر كل من تقع منه مخالفات لواجباته الوظيفية أو تقصير في عمله، وله أن يطلب رفع الدعوى التأديبية عليه، دون إخلال برفع الدعوى الجنائية طبقا للمادة 22 إجراءات جنائية.

وقد كان قانون الاجراءات الجنائية عند صدوره سنة 1950 قد أناط بالمشرع وحده صلاحية، منح صفة الضبطية القضائية بقانون يصدره لهذا الغرض. لكن نص المادة 23 المنظم لموضوع الضبطية القضائية عدل بالقانون رقم 37 لسنة 1957؛ ليجعل منح الضبطية القضائية الخاصة بقرار من وزير العدل بالاتفاق مع الوزير المختص. كما نصت الفقرة الأخيرة من المادة 23 على اعتبار النصوص الواردة في القوانين والمراسيم والقرارات الأخرى، بشأن تخويل بعض الموظفين اختصاص مأموري الضبط القضائي بمثابة قرارات صادرة من وزير العدل بالاتفاق مع الوزير المختص، فيجوز له تعديلها بقرار إداري على الرغم من ورودها في قوانين. وقد انتقد بعض الفقه هذا التعديل للمادة 23 الذي سلب اختصاص البرلمان لصالح وزير العدل ممثل السلطة التنفيذية في مسألة، تتعلق بحريات المواطنين. ورأى البعض الآخر، أن التعديل أُريد منه تبسيط إجراءات منح صفة الضبطية القضائية بقرار من وزير العدل على أساس، أن ذلك من قبيل التفويض التشريعي.

وهذا الأمر لا يخرج عن غيره من القوانين التي يتم تعديلها وفق إرادة السلطة التنفيذية، والتي لها على الدوام القوة الغالبة داخل المجالس النيابية، أو عن طريق تمرير النصوص وفقا لنصوص الدستور، التي تبيح للحكومة التقدم بتشريعات للهيئة التشريعية.

لكن تبدو أزمة قضية التوسع في منح صفة الضبطية القضائية للعاملين المدنيين، كل في نطاق وظيفته، على أقل تقدير من الناحية النظرية، تشير إلى احتمالية التضارب أو التناقض الوظيفي ما بين العاملين في هذه الجهات، وبين الموظفين العموميين أصحاب صفة الضبطية القضائية كضباط الشرطة وأعضاء النيابة وغيرهم. كما تبدو المشكلة من زاوية مغايرة، تشير إلى أن ذلك التوسع الكبير في منح الضبطية القضائية يتعارض بشكل مفاهيمي مع اعتبارات العدالة، وسيادة القانون وخضوع الدولة للقانون، وجميع هذه المبادئ لازمة وضرورية لحياة الدولة ولحماية حقوق المواطنين، والحفاظ على أمنهم وسلامتهم، ولضرورة الحفاظ على مفهوم الأمن الاجتماعي بشكله العادل.