من انقلاب الشاه رضا بهلوي على حكم السلالة القاجارية عام 1921م، وحتى مصرع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حادث سقوط طائرة 2024 م، مائة عام على وجه التقريب. هذه المائة عام هي التي صنعت إيران، التي نراها اليوم. إيران التي نراها اليوم لها معنيان:
1- أولهما: إيران الدولة المركزية الموحدة التي تفرض سلطانها من قلبها على كل أطرافها، وتبسط هيمنة ليست محل تنازع على كل رعاياها، هذه الدولة المركزية الموحدة بهذا الشكل النموذجي، لم تعرفه إيران قبل انقلاب الشاه رضا بهلوي، الذي نصب نفسه ملكاً، ووضع تاج الُملك على رأسه بيديه، ولم يسمح لأحد سواه، أن يضع له التاج فوق رأسه مُقتدياً في ذلك بأشهر إمبراطورين فعلا ذلك، فعلها نابليون بونابرت 1804م، ومن قبله فعلها شارلمان 800 م، الثلاثة رفضوا أن يتولى أكبر رجال الدين في زمانهم ترسيم التاج فوق رؤوسهم، كان الرفض يعني شيئاً واحداً، وهو أن سلطة الإمبراطور فوق كل سلطة؛ فالسياسة فوق الدين، وسلطة الحاكم الفرد فوق الجميع، كان الشاه رضا بهلوي، وهو يقضي على حكم السلالة القاجارية التي حكمت إيران من 1789م حتى 1925م، يؤسس في إيران دولة مركزية موحدة، لم تكن من قبل، فقد عجز القاجاريون في فترات عديدة عن بسط سلطان الدولة على كل ترابها وسكانها، بل في بعض الأحيان، كانت سلطتهم لا تتجاوز العاصمة، وكانت العاصمة تتنقل من مدينة إلى أخرى، بما يعكس حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار، أسس الشاه رضا بهلوي دولة إيران الحديثة، مثلما أسس محمد علي باشا دولة مصر الحديثة، تأسيس على المزدوج الذهبي: استخدام فائض العنف والقسوة في سحق كل الخصوم المتنافسين معه، والمتنازعين على السلطة وترويض الحلفاء وتطويعهم، وخلق فرص واسعة للانتفاع المتبادل، بما يكفي لشراء ولائهم، ثم التوجه نحو الغرب، واستقدام الخبراء وإرسال البعثات وإدماج الاقتصاد الإيراني في النظام الرأسمالي الاستعماري، لكن- مثل محمد علي باشا- لم يكن يستفز عموم الناس، وكان يراعي طبقة رجال الدين، ويحتويها بمهارة ودهاء.
ومثلما أورث محمد علي باشا حكم مصر لذريته، فقد أورث الشاه أحمد ملك إيران إلى نجله الذي حكمها من 1941م، حتى خلعته الثورة الإسلامية 1979 م، ومثل والده حكم بالقبضة الحديدية مع اصطناع طبقة من الموالين والأتباع، كذلك مثل والده ولى وجهه شطر الغرب، وعاش تحت رعايته، حتى يوم سقوطه. يتشابه حكم السلالتين العلوية في مصر والبهلوية في إيران، أن الباشا وسلالته توارثوا عقيدة عدم السماح بأي معارضة حقيقية منظمة مستقرة، تراكم بنية تحتية للديمقراطية، وبذلك نجحت في الاستمرار مائة وخمسين عاماً، حتى سقطت تحت انقلاب جيشها عليها، فلم يكن يستطيع إغلاق تاريخ الباشا، وسلالته إلا جيشهم الذي أنشأه الباشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وفي مائة عام أي عند منتصف القرن العشرين، اقتلع الجيش السلالة من جذورها، ثم حل محلها، وأصبح سيد البلد وسلطانها الوحيد، حدث شيء مثل ذلك في إيران البهلوية التي اجتهدت في إنهاك المعارضة الارستقراطية التي خاضت المعارك من أجل الدستور من عام 1906م، ثم أنهكت المعارضة اليسارية المزدهرة حول حزب تودة الشيوعي في الأربعينيات والخمسينيات، ثم تآمرت مع الأمريكان والإنجليز ضد المعارضة الليبرالية الديمقراطية العلمانية الوطنية التي قادها الارستقراطي المثقف المصلح دكتور محمد مصدق 1881 – 1967م، خلال فترة توليه رئاسة الوزارة في مطلع الخمسينيات، إذ خرج على تقاليد طبقته الارستقراطية، وعاش حياة الطبقة الوسطى، والتحم مع الجماهير، وعبر عن أشواقها في الانعتاق من هيمنة الغرب الذي ينهب ثروة إيران البترولية، فأقدم- في جسارة نادرة المثال- على تأميم صناعة النفط الإيرانية، وكان رد الاستعمار الغربي تدبير انقلاب عسكري، تم تنفيذه بأيد إيرانية من آيات الله من كبار فقهاء المذهب الشيعي، ثم من كبار قادة الجيش الإيراني، ثم الشاه محمد رضا بهلوي، ومن معه من رجال القصر الملكي.
إنهاك واستنزاف المعارضة الارستقراطية، ثم اليسارية، ثم الديمقراطية الليبرالية، فتح الطريق بعد ربع قرن من الانقلاب على مصدق 1953م؛ لتكون المؤسسة الدينية الشيعية المنظمة (الحوزة العلمية)، هي قائد المعارضة، ثم قائد الثورة 1979 م. الفارق بين الشاه رضا بهلوي 1878- 1944م، ومحمد علي باشا 1769 – 1849م، أن الباشا سبق الشاه بمائة عام، هذه المائة تُحسب في ميزان السبق لمصر، فمصر- بكل معيار- تظل الأسبق والأبكر ظهوراً والأعمق تأثيراً والأثقل وزناً في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، أو ما أسميه الشرق الأوسط الأوروبي، حيث اضمحلت الحضارة الإسلامية، وفقدت المنطقة مناعتها المعنوية والمادية، وسقطت- بلا كثير إرادة- تحت إغراء وجاذبية الحضارة الغربية.
2- ثانيهما: إذا كانت السلالة البهلوية 1925 – 1979م، قد جعلت من إيران كياناً سياسياً صلباً متماسكاً موحداً، يقبض زمام أمره، ويبسط سلطانه على كل ترابه وسكانه، فإن دولة الفقهاء 1979 – 2024 م، ذهبت بهذه المركزية أشواطاً أبعد، فقد استعادت روح الحقب القديمة من تاريخ التفوق الفارسي قبل الإسلام، وبالذات الحقبة الساسانية من منتصف القرن الثالث الميلادي 224 م، حتى منتصف القرن السابع الميلادي فعلى مدى أكثر من أربعة قرون، كانت إيران هي سيدة الشرق الأوسط، دون منازع إلا من الإمبراطورية البيزنطية في الغرب.
دولة الفقهاء عرفت ثلاث مراحل: العقد الأول من 1979 – 1989 م، كانت في موقف دفاعي عن نفسها في وجه حرب، يتكتل ضدها فيها العرب والغرب، ورأس حربتها عراق صدام حسين. ثم العقد الثاني من لحظة وضعت فيها الحرب أوزارها 1989م، ثم وفاة قائدة الثورة والدولة معا الإمام الخميني 1902 – 1989 م، ثم غلطة صدام حسين بغزو الكويت أغسطس 1990 م، ثم بداية تساقط الاتحاد السوفيتي، وحتى وقعت واقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001 م، حيث دخلت أمريكا والغرب في حرب مع عالم الإسلام السني، غزو أفغانستان 2001م، ثم غزو العراق 2003م، في هاتين الحربين كانت أمريكا والغرب تفتح أبواب التاريخ واسعة، حتى تنطلق إيران من حقبة الدولة المركزية إلى حقبة الإمبراطورية ذات الهيمنة في الإقليم، والتي تستعيد أمجاد الساسانية، تم تكسير عتاة خصومها من السنة في أفغانستان، ثم العراق مجاناً على نفقة أمريكا والغرب وبسلاحهما، فلم تتكبد إيران مالاً ولا رجالاً ولا سلاحاً، تم إطلاق يد إيران في إقليم، كان يقوم منذ الحرب بين الصفويين في إيران والمماليك في مصر والشام والعثمانيين في الأناضول عند مطلع القرن السادس عشر، أي على مدى خمسمائة عام على التوازن بين الشيعة والسنة، فبعد قريب من ربع قرن، لم تعد جزيرة العرب إلى حلقة عائمة محفوفة بالنفوذ الإيراني من كافة الجهات، نفوذ إمبراطوري هو ما كان في ذروة أمجاد الإمبراطورية الساسانية، قبل أن تتساقط تحت زحف الإسلام الذي خرج بالعرب من البوادي إلى آفاق العالم القديم.
في المائة عام من تنصيب الشاه رضا بهلوي 1925، حتى مصرع الرئيس إبراهيم رئيسي 2024 م، مسيرة عاصفة في التاريخ من كيان مفكك إلى دولة مركزية إلى نموذج ثوري إلى إمبراطورية إقليمية.
السؤال: إلى أين تذهب إيران؟ هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.