لقد انفجرت القنبلة، ولم يعد ممكنا إلا محاولة الحد من مضاعفات الانفجار، والحيلولة دون انفجار مزيد من القنابل في وجه إسرائيل.
هذا هو الوصف الأقرب لقرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، بالطلب إلى هيئة القضاة في المحكمة إصدار أوامر اعتقال لرئيس الوزراء الاسرائيلي ووزير دفاعه، لتسببهما في جرائم حرب بصفة منهجية في غزة، منها الإبادة الجماعية والتجويع وعرقلة وصول مواد الإغاثة، والمعونات الدولية لسكان غزة، وهي الجرائم التي لا تزال تُرتكب حتى اليوم، بمنطوق مذكرة الادعاء.

كان طلب المدعي العام للمحكمة (كريم خان) قد تضمن أيضا اعتقال ثلاثة من قادة حركة حماس، لدورهم في جرائم الحرب التي وقعت في أثناء عملية طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر الماضي، وهم إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وكل من يحيى السنوار ومحمد ضيف من قادة حماس الميدانيين في غزة، واللذين خططا، وقادا هجوم طوفان الأقصى على بلدات وقرى وأهداف مدنية إسرائيلية.

رغم أن طلب الاعتقال ذاك قد ساوى بين الضحية وبين الجلاد، كما وصفه متحدث باسم حماس، فإن وقع هذا التطور النوعي على إسرائيل وأنصارها، اختلف في قوته عن وقعه على حركة حماس، ومؤيديها، وعلى مناصري الحقوق الفلسطينية المشروعة بصفة عامة. ولو من باب أن الفلسطينيين ليس لديهم ما يخسرونه أصلا، أو من باب أن حركة حماس تكاد تكون معزولة دوليا من الأصل، إن لم تكن موصومة بالإرهاب- ابتداء-عند جميع الأمريكيين وجميع الأوروبيين، بل وعند بعض العرب أنفسهم.

لذا كانت درجة الغضب والثورة على المدعي العام للمحكمة بالغة العنف والحدة في إسرائيل، وخالية من اللياقة، وممزوجة بالتهديد بعقوبات صارمة على المحكمة ذاتها في الولايات المتحدة، وذلك إذا استجابت المحكمة إلى طلب مدعيها العام، وأصدرت قرارات اعتقال بحق مسئولين إسرائيليين.

عدا أن القنبلة انفجرت، وسمِع دويها في أنحاء العالم، كما قلنا في البداية، فإن الباقي مجرد تفاصيل، ذلك أنه في حالة إسرائيل والولايات المتحدة في مواجهة الحقوق الفلسطينية، فإن الشرعية الدولية مهدرة مقدما، منذ أمد بعيد، وبالتالي فليست القيمة هنا هي القدرة علي تنفيذ قرار اعتقال مسئولين إسرائيليين في حالة صدوره، ولكن القيمة التي لا يستهان بها هنا هي ترسخ الاتجاه الدولي لمحاكمة إسرائيل، وإنهاء الوضع الاستثنائي، الذي جعل الدولة العبرية فوق القانون الدولي، وفوق قرارات الأمم المتحدة، ومنظماتها النوعية ووكالاتها المتخصصة، فهي هنا تحاكم جنائيا ومن خلال كبار قادتها، بعد أن حوكمت ولا تزال تحاكم أمام محكمة العدل الدولية في تهمة الإبادة الجماعية، بموجب دعوى جمهورية جنوب إفريقيا، التي انضمت إليها دول عديدة، أحدثها جمهورية مصر العربية.

إن إبطال هذه الاستثنائية الإسرائيلية هو بلا شك مقدمة؛ لتراكم سلسلة من السوابق ستؤدي في النهاية إلى تغير نوعي، يشمل المنظمات الدولية والرأي العام العالمي، وأغلب دول العالم، بحيث تتعمق عزلة إسرائيل دوليا، وكما نعلم فإن احتجاجات طلاب الجامعات في أوروبا وفي الولايات المتحدة على الانتهاكات الإسرائيلية للقانون، والعرف، في حرب غزة، كانت هي الأخرى بمثابة تحطيم لمناعة الدولة العبرية، ضد المساءلة والانتقاد، بحيث أمكن القول، إنها فقدت معركة الرأي العام في أمريكا وأوروبا، وهذا بدوره تطور مهم داخليا في تلك الدول المهمة والمهتمة بالسلام والحرب في الشرق الأوسط، لا سيما وقد بدأت آثاره السلبية المحلية، تظهر مثلا في حسابات انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة، حيث يتوقع على نطاق واسع، أن يفقد الرئيس الحالي بايدن أصوات الشباب والتقدميين عموما؛ بسبب انحيازه المطلق لإسرائيل، المحكومة حاليا بائتلاف شديد التطرف، والعنصرية.

أعود فأتذكر، وأذكر القارئ، أنه من المستبعد أن تستجيب هيئة المحكمة للمطلوب منها من جانب مدعيها العام؛ بسبب الضغوط الهائلة التي ستمارسها الولايات المتحدة على هذه المحكمة، وعلى الدول المشاركة فيها، كذلك من المؤكد، أن قرارات باعتقال مسئولين إسرائيليين لن تنفذ، إذا افترضنا جدلا، أن قرارا بهذا المعني قد صدر، لأن إسرائيل ليست عضوا في هذه المحكمة، ولأن ليس من السهل توقع أن تبادر الدول الأعضاء بالقبض على المسئولين الإسرائيليين المعنيين، وتسليمهم إلى المحكمة في حالة وجود هؤلاء المسئولين في أراض، أو أجواء دولة أخرى عضو في الجنائية الدولية، تجنبا لإغضاب واشنطن!

وبالنسبة لقادة حماس، فليس متوقعا أن يسلموا أنفسهم، أو يسلمهم طرف ثالث، ولا يزال حيا في الأذهان مثال الفشل في تنفيذ قرار المحكمة القديم باعتقال الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير لمحاكمته على جرائم الحرب في دارفور، لكن كما قلنا، فإن الضرر الأدبي والإعلامي والسياسي لإسرائيل قد وقع بالفعل بإدخالها في دائرة الاتهام والمساءلة، واطراد محاكمتها من محكمة العدل الدولية إلى الجنائية الدولية، وبإنهاء حالة الاستثناء الممنوحة لها أمام القانون، والعرف الدوليين، بالنفوذ الأمريكي بالدرجة الأولى.

وبالطبع، فإنه من الناحية النظرية البحتة، وفي حالة صدور القرارات المطلوبة، فسوف يخلق مشكلات عملية للإسرائيليين، من قبيل قيود السفر إلى الخارج على المسئولين المعنيين، ومن قبيل استمرارية التناول الإعلامي لهذه التهم والقرارات، كلما تطرقت التغطيات الإخبارية لموضوع النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.