برحيل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، عقب تحطم طائرته في محافظة أذربيجان الشرقية شمال شرق إيران، طرحت أسئلة عديدة تتعلق بالحادث، وتساؤلات أخرى حول من سيخلفه، وكيف ستفرز المنظومة السياسية الإيرانية رئيسا جديدا.

فيما يتعلق بالحادث، المفارقة أن الرجل لم يمثل أي تهديد لمراكز صنع القرار في داخل منظومة الحكم في إيران، ولا يحمل رؤية إصلاحية جذرية، تجعل هناك أطرافا داخل مؤسسات الحكم، ترغب في التخلص منه، فآراؤه متطابقة مع منظومة الحكم الحالي متمثلة في نظام ولاية الفقيه، والصلاحيات الواسعة للمرشد الأعلى.

ومع ذلك، فإن هناك علامات استفهام تتعلق بملابسات الحادث، قد تبدو غير منسجمة مع كون الرجل شخصية غير مستهدفة من قبل النظام، وهي تتعلق بمعرفة المسئولين الإيرانيين بسوء الأحوال الجوية، وصعوبة التضاريس في هذه المنطقة، ولذا بدا الأمر غريبا، أن يعطي الضوء الأخضر لطائرة رئاسية؛ لكي تطير في هذه الأجواء، خاصة أنها مروحية قديمة من نوع بيل 212 (Bell)، وصنعت في السبعينيات.

وهنا هل سقوط طائرة رئيسي؛ نتيجة نوع من الاتكال والاستسهال، يحدث في كثير من البلاد الشرق الأوسطية؟ أم فيه تعمد؟ سنعتمد إجابة “القضاء والقدر” وسوء التقدير، وليس العملية المدبرة، وسنرى كيف ستجري الانتخابات الرئاسية؟ وما هو مستقبل النظام السياسي الإيراني بعد مقتل رئيس الجمهورية؟.

يمكن القول، إن وفاة الرئيس الإيراني لن تؤثر على جوهر السياسات الإيرانية في الداخل والخارج، وستجرى الانتخابات في موعدها أي في خلال 50 يوما؛ لأن النموذج الإيراني يقبل بتعددية وتداول للسلطة، ولكن على أرضية النظام القائم الذي يقوده المرشد الأعلى صاحب الصلاحيات الواسعة، والتي تجعله هو رأس النظام السياسي القائم، وليس رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب.

والحقيقة، أن النظام الإيراني تأسس عقب الثورة الإيرانية في 1979 على أساس وجود قائد أعلى من رجال الدين، وهو الراحل الإمام الخميني، قائد الثورة ومرشدها المؤسس، ثم جاء بعده المرشد الحالي علي خامنئي.

إن أزمة النظام السياسي الإيراني منذ نشأته، وحتى هذه اللحظة تكمن في التناقض الموجود بين الصلاحيات الهائلة لمرشد الثورة المنتخب من بين رجال الدين، ورئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، وأن الثنائية بين الجانبين شملت تقريبا كل مؤسسات النظام السياسي الإيراني، وليس فقط ثنائية رئيس الجمهورية والمرشد الأعلى، إنما أيضا وجدت طريقها بين مجلس الشورى الإسلامي أي البرلمان في مقابل مجلس صيانة الدستور، وفي القوات المسلحة هناك الجيش الإيراني النظامي، وهناك الحرس الثوري.

أما رأس السلطة الحقيقية فهو مرشد الجمهورية المرتبط بنظرية ولاية الفقيه التي وضعها الإمام الخميني، فهو قائد الجيش، ويحق له تعيين وعزل 6 أعضاء من علماء الدين في مجلس صيانة الدستور، ورئيس السلطة القضائية، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون والقائد الأعلى للحرس الثوري الإسلامي وقوى الأمن، وهناك ممثلون للمرشد يعينهم في كل وزارة أو مؤسسة حكومية مهمة، كما يشرف على المكاتب الثقافية للسفارات الإيرانية، ويتولى إيصال الدعم المالي للحركات الإسلامية “الصديقة” متخطيا بذلك الرئيس ووزير الخارجية.

إن وجود رئيس يستمد شرعيته بالانتخاب ومرشد للثورة يستمد شرعيته من مؤهلاته الدينية، (ولكنه منتخب أيضا) وامتلاك الثاني لصلاحيات تفوق الأول، بحيث لم يعد أمام الرئيس فرصة للاستمرار في إدارة شئون البلاد إلا بالتعاون، أو الانصياع لقرارات المرشد الأعلى.

معضلة النظام الإيراني، إنه بدون انصياع الرئيس لتوجهات المرشد الأعلى لا يمكن ضمان استقرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتسيير شؤونها، وهو ما أدى إلى احباط قطاعات واسعة من الشعب الإيراني؛ لأنها شعرت أن اختيارها لأي رئيس إصلاحي، وخاصة خاتمي أو حتى الرئيس السابق روحاني، لم تؤد إلى إحداث تغيير عميق في بنية النظام القائم وفي معادلات الحكم الديني.

ولعل هذا ما جعل البلاد تشهد احتجاجات كثيرة في الربع قرن الأخير، وبدأت عقب إعلان هزيمة المرشح الإصلاحي حسين مير موسوي في 2009، وخرجت احتجاجات واسعة اتهمت أجهزة الدولة بالتزوير، وعادت وتكررت الاحتجاجات السياسية والاجتماعية والثقافية بوتيرة أسرع فشهدت في 2018 احتجاجات واسعة على غلاء الأسعار، ثم جرت بعد ذلك في 2022، مظاهرات ومصادمات عنيفة عقب مقتل الشابة “مهسا أميني” التي أوقفتها شرطة الأخلاق؛ بسبب “عدم ارتدائها الحجاب بشكل مناسب”.

احتجاجات إيران كانت تشتعل لسبب اجتماعي أو سياسي، ولكنها كانت بالأساس تعترض على منظومة الحكم التي يقودها مرشد ديني، فأزمة النظام السياسي الإيراني تكمن في وجود سلطة دينية فوق السلطة المدنية المنتخبة.

إبراهيم رئيسي، جاء عقب فوزة في انتخابات رئاسة معروف نتيجتها مسبقا في 2021، ونجح من الجولة الأولى بنسبه ٦١٪ في انتخابات، شارك فيها ٤٨٪ من الإيرانيين، وهي أدنى نسبة مشاركة منذ نجاح الثورة الإيرانية في ٧٩.

التحدي الذي سيواجه النظام السياسي الإيراني، ليس تحديا إجرائيا يتعلق بإجراء الانتخابات في موعدها بعد شهر ونصف، أم لا فهي ستجري في موعدها دون عقبات تذكر، ولكن التحدي يكمن في قدرة الرئيس القادم على تجديد المنظومة الحالية، التي لم تعد تسمح بالتنافس بين الإصلاحيين والمحافظين، وأن الإصلاحيين الذين يدخلون السباق الرئاسي، وقدر لهم أن يفوزوا لا بد أن يكون المرشد ومنظومة المحافظين الدينية راضية عنهم، كما حدث مع روحاني، وأن نموذج خاتمي الذي فاز بدورتين عن جدارة، ولم يستطع أن ينفذ أغلب برامجه الإصلاحية لم يتكرر.

سيأتي إلي إيران رئيس محافظ جديد، وسيبقي التحدي في إصلاح المنظومة الحالية؛ لتصبح أكثر تنافسية وتدمج التيارات الإصلاحية في المسار الدستوري والانتخابي، وإلا ستستمر هذه التيارات في الضغط، ولو على فترات عبر الشارع لإجراء الإصلاحات المطلوبة.