على الرغم من أن الحديث عن النخبة في مصر يثير الكثير والكثير من الشجون، إلا أن النخبة السياسية الرسمية تبدو أكثر من غيرها من حيث اهتمام الناس بها، مقارنة بالنخبة غير الرسمية أو النخبة غير السياسية ذات الصلة الوثيقة بالمناصب الإدارية القيادية في الدولة. واحد من أبرز المشكلات المتعلقة بالنخبة السياسية الرسمية في مصر يتعلق بطرائق تعيين في المواقع والمناصب والخروج منها، والاستمرار فيها. الناس عادة في مصر لا يفهمون لماذا وجد هذا الشخص في المنصب الفلاني، ولا يفهمون لماذا يبقى فيه رغم ما يثار من مشكلات حوله، ولا يفهمون لماذا خرج هذا الشخص أو ذاك من المنصب، وهل أقيل رغما عنه أم استقال بإرادته. أسباب كثيرة خلال العقدين الأخيرين ترتبط، وتحيط بالغموض حول كل ذلك، يمكن ذكر أبرزها فيما يلي: –

1- عدم وجود آلية محددة تتسم بالاختيار، بمعنى عدم وجود معايير واضحة ومعلنة، ترتبط بشغل المناصب السياسية، وحتى لو كانت تلك المعايير تختلف من منصب إلى آخر (محافظ/ رئيس مجلس مدينة أو مركز/ وزير/ نائب وزير/ … إلخ) فهي غائبة. ما يجعل كافة الأمور غائمة ومبهمة وغير واضحة المعالم.

2- غياب الشفافية أو الصراحة في إعلام الناس بحقيقة ما يجرى خلف الكواليس، وهذا الغياب يجعل عملية شغل المناصب كالطلاسم، ما يسفر في إرباك الناس، بسبب عدم وجود تفسير رسمي، لماذا أتى (أ) وبقى (ب) ورحل (ج).

3- عدم وجود آليات محاسبة ورقابة، ما يساعد على انتشار روح عدم المسئولية. هنا من المهم الإشارة إلى ضعف وسائل الرقابة السياسية كمحدودية سلطة البرلمان، وإهمال أجهزة الرقابة الإدراية والمالية لكافة الأمورالمتصلة بالمناصب؛ خشية من بطش صانع القرار، حال تدخلها لإصلاح الأوضاع.

4- غياب أو موت السياسة ما يجعل عديد الأمور المتصلة بشغل المناصب في حالة إرجاء أو تأجيل. هنا من المهم الإشارة إلى ضعف الأحزاب السياسية كوسيلة رقابة غير رسمية، ومحدودية دور المجتمع المدني ككيان شعبي فاعل، وتأميم وتكميم الإعلام؛ بسبب عدم استقلال غالبيته، والتدخل (بحكم المادة 185 من الدستور) بشكل أو بآخر في تعيين السلطة لرؤساء الهيئات والجهات القضائية، ووجود آليات قانونية بشأن الانتخاب، تتسم بعدم النزاهة والضعف الشديد كنظام القوائم المطلقة، القائم على تعيين نواب البرلمان أو تزكيتهم، ما يجرد الرقابة السياسية من أي جدوى أو محتوى، لأنه يلغي تقريبا النخبة البرلمانية السوية.

5- وجود ثُلة من غير العالمين ببواطن الأمور، يقومون على ترشيح وتعيين واختيار المناصب القيادية، وقد تبين في الكثير من الأحيان عدم صدق حدسهم، وفشلهم في تعيين الرجل المناسب في المكان المناسب، عندما يمارس هذا الشخص أو ذاك مهام منصبه، ويبلي أسوأ بلاء في تاريخ هذا المنصب، بل ويتبين بعد فترة، أنه تنقصه مؤهلات منطقية (بعضها وثائقي وورقي) غفل أو تغافل عنها القائم أو الموصى بالترشيح، (إبان حكم مبارك كانت هناك وزيرة للقوى العاملة، لم تكمل تعليمها الأساسي، وعلى علاقة جيدة بأرملة الرئيس الأسبق).

في وصف النخبة السياسية خلال العقدين الأخيرين، يلاحظ أنها تعتمد بشكل رئيس على أحد أو بعض أو كل ما يلي: –

1- إلصاق المناصب المتعددة بأكثر من شخص، بمعنى تولي شخص واحد عدة مناصب رسمية في الدولة، خاصة في الفترة الراهنة. هنا يبدو الأمر غاية في الغرابة؛ لأنه من المستحيل أن يستطيع الشخص الواحد الوفاء بكل تلك المناصب جملة واحدة، ما يفضي إلى إرباك المشهد، ووجود نواب لهذا الشخص في كل منصب من المناصب التي يشغلها، هم بالفعل القائمون على القيادة من خلف الستار، ويكون الشخص المتعدد المناصب مجرد واجهه مسئولة، ما يجعل الفشل أقرب للتحقيق من النجاح.

2- يرتبط بما سبق بقاء الشخص في موقعه ومنصبه رغم نفاد المدة أو المدد القانونية للبقاء في المنصب، الذي هو عادة ما يكون سن التقاعد، ما يجعل تجديد الدماء وإحلال المواقع مجرد شعارات، لم تعد لها وجود.

3- تولى المناصب عن طريق المجاملات، بمعنى أن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب سيكون عبارة عن شعار مرفوع لا أساس له في الواقع، ومن ثم الاعتماد على علاقات الصداقة، وأحيانا القرابة والزمالة في العمل السابق، هي بعض ما يؤهل الشخص للاختيار في هذا المنصب أو ذاك.

4- الاعتماد على غير المدنيين وبشكل خاص المتقاعدين في تولي المناصب، بدعوى أن هؤلاء هم الأكثر انضباطا وأقل فسادا والأشد حزما وحسما للأمور. وقد تبين من واقع أغلبية ما هو قائم من نخبة، أن الفساد والانضباط هو أمر لا يرتبط بمؤهل سابق أو بمهنة قديمة، بل أن الالتزام بالقانون والرقابة والمحاسبة هي العامل الرئيس في سير دولاب العمل بكفاءة.

مما سبق يتبين أن الاعتماد على أهل الثقة يبدو أنه يحسم معركة الاختيار في تحديد أغلب المناصب، مقابل أهل الخبرة. فهؤلاء من وجهة نظر القائمين بالاختيار، هم الأكثر ولاء وانتماء، ما يجعل الاستقرار بمعنى بقاء الأوضاع على ما هي عليه، دون أي تجديد أو ابتكار هو سيد المشهد، مقابل التغيير والتجديد الذي ربما يكون مثيرا لازعاج القائمين والمتواجدين على رأس المشهد، الذي هم أيضا تكلسوا في مواقعهم، وأصبح أي تبدل في أحوال كبار قادة النخبة الرسمية يعني تبدلهم أيضا كعناصر، تختار من هم أسفل منهم في سلم القيادة.

في إطار كل ما سبق، يمكن ملاحظة بعض النماذج والأمثلة البارزة كما يلي: –

النخبة الإخوانية التي تولت زمام القيادة خلال الفترة 2012-2013، اعتمدت على قيادات الحرية والعدالة والتيار السلفي، ما جعل سياسات التمكين للتيار الديني أكبر بكثير من سياسات الشراكة مع التيار المدني. بالطبع قد يكون هذا الأمر طبيعيا في النظم السياسية التي يفوز تيار فيها بالسلطة، لكن الغريب في الحالة المصرية، أن الإخوان قاموا بذلك في تناقض كامل مع شعاراتهم، كما أن الظرف السياسي المرتبط بالثورة والإطاحة بأعدائها، لم يكن يستدعي أبدا، عزل الفصيل الأهم فيها، وهو الفصيل المدني.

خذ مثالا آخر، وهو بقاء الوزارة الحالية ووزراء الحكومة الحالية في مواقعهم، دون تغيير على الرغم من أن (أ ب) سياسية، هو تغيير هؤلاء بمجرد بدء فترة الرئاسة في 2 إبريل الماضي، وهو أمر يستدعي ضرورة دراسة دواعي وأسباب تجلط النخبة السياسية في مصر، وكذلك المقارنة لدراسة القواعد والأعراف الدولية في إعمال التغيير في النخبة بعد كل انتخابات لرأس السلطة. إن بقاء الوضع القائم على ما هو عليه يفترض أن الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية تسير بدون إزعاج أو أزمة، وكأنه لا توجد هناك معدلات فقر قد ارتفعت، أو تضخم يتفاقم، أو سجناء رأي في ازدياد، أو حوار وطني تهمل مقترحاته، أو عملة وطنية تتدهور قيمتها باستمرار.. إلخ.

خذ أيضا نخبة المحافظين الـ 27، وهي نخبة غريبة، فمنذ نوفمبر 2019، لم تحدث حركة محافظين سواء بالتعيين أو النقل أو الخروج. والملاحظ أنه من بين الـ27 محافظة الحالية، يوجد 20 محافظأ من أصول عسكرية، منهم 10 من ضباط الجيش المتقاعدين، و10 من ضباط الشرطة المتقاعدين. أما السبعة الباقون فمنهم قاض، والستة الباقون هم من حملة الدكتوراه، ومنهم أستاذ جامعي، وبيطري وصيدلاني وطبيبان، والأخير وهو محافظ الدقهلية هو الوحيد من أبناء المحليات، ممن تدرجوا في تلك المناصب الإدارية بها، ومن ثم كان هو الأكثر مناسبة في موقعه عن باقي أقرانه. أما أقدم المحافظين، فالملاحظ وجود محافظ شغل منصبه، منذ أغسطس2011 حتى اليوم.

خلاصة القول، أن هناك حاجة ماسة لوضوح الرؤيا والشفافية، فيما يتعلق باختيار النخبة السياسية الرسمية المصرية. لا شك أنه لا يوجد ما يمنع، من أن تكون هناك نظرة أمنية ضمن الأمور التي تحكم عملية الاختيار. لكن مهم أن تكون عملية الاختيار مرتبطة بالخبرة والمهنية العالية، وتنوع الرؤى السياسية، وليس الولاء. مهم للغاية أيضا أن يرتبط الاختيار بالانتخاب قدر المستطاع، أو استطلاع رأي المعنيين بالأمر والمرؤوسين والاستماع لوجهات نظرهم بعناية. مهم أخيرا، العناية بعنصر الشباب، والتجديد المتواصل، بمعنى عدم تكلس الناس في مواقعهم أو تعدد المناصب للشخص الواحد، عندئذ على الأرجح ستسير الأمور بشكل يفضي إلى المزيد من التنمية والتقدم