تنعكس الأزمة السودانية بجميع مفاصلها على الشتات السوداني، الذي كان فاعلا، وله أثر كبير في تحقيق التغيير السياسي عام ٢٠١٩، خصوصا في واشنطن، وذلك بإزاحة الرئيس السابق عمر البشير عن سدة الحكم، ولكن هذا الإنجاز الكبير لم يترتب عليه نجاح في عملية إعادة بناء الدولة، وبالتالي وصل الجميع إلى مرحلة الاحتراب الداخلي المهدد لوجود الدولة ذاتها، منذ إبريل ٢٠٢٣.
ولأن واشنطن عاصمة فاعلة ونشطة في التفاعلات السودانية، فإن الموجودين فيها يحظون بأهمية كبيرة من زاوية إمكانية تأثيرهم في بلورة السياسيات الأمريكية عبر التواصل المباشر، وهم بالفعل نجحوا في مراحل سابقة مثلا في الدفع نحو رفع اسم السودان من على قائمة الدول الراعية للإرهاب، كما نجحوا في بلورة الكونجرس لعدد من القوانين الداعمة للتحول الديمقراطي في السودان.
وربما من هذه الزوايا جميعا، يكون من الأهمية بمكان الاطلاع على موقف الفاعلين السودانيين حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية، وطبيعة أدائهم في هذه المرحلة الدقيقة في التاريخ السوداني الحديث، وهو ما حاولت أن استكشفه في أثناء زيارتي إلى واشنطن أحد عواصم القرار العالمي.
في هذا السياق جمعتني لقاءات على مستويين، الأول لقاءات جماعية بمجموعات سودانية منتقاة في إطار دور الجاليات السودانية في كل من نيويورك، ونيوهيفن وواشنطن وفرجينيا، ومنها أيضا لقاءات شخصية بعدد من أعضاء حكومتي د، عبد لله حمدوك المدنيتين، أو ناشطين في فعاليات تنسيقة “تقدم” المعارضة حاليا، فضلا عن رموز محسوبة على النظام القديم، ممن تجمعني بهم علاقات إنسانية، ترتبت على العمر الزمني الطويل لنظام عمر البشير، ويتوازى مع هؤلاء جميعا في الأهمية مجموعة من الإعلاميين الفاعلين في وسائل الإعلام، سواء الأمريكية أو العربية، وربما من أهم هذه اللقاءات استضافة الأستاذ لقمان أحمد رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون السابق في السودان لرهط من الإعلاميين، والكتاب السودانيين بمناسبة زيارتي لواشنطن.
ويمكن القول إن اتجاهات التفاعل والنقاش في إطار الأزمة السودانية قد كشفت عن عدة نقاط من المهم عرضها تحت المجهر، ربما تفيد في عمليات محاولة صناعة سلام في السودان، ينقذ الشعب ومؤسسة الدولة معا.
أولا: إن هناك حالة من التراشق ما زالت قائمة بشأن من المسئول عن الحرب، أي من انقلب على من، وهو أمر يتم فيه تجاهل، أن هذه الحرب قد مضى عليها عام ونيف، وأن المضي قدما قد يتطلب تجاوز هذه الحالة؛ بهدف التفكير في تدشين معادلات جديدة من شأنها إنهاء الحرب.
ثانيا: إن هذه البداية الخاطئة في تقديرنا قد ترتب عليها توقف أي مجهودات سودانية مشتركة؛ بشأن وقف الحرب في أروقة الإدارة الأمريكية، وذلك على النحو الذي جرى على وقت الثورة السودانية، وتكوين الحكومة المدنية السودانية من هذه الزاوية، تكون فرص التشاور بين الجانبين السوداني والأمريكي ضعيفة في ضوء عدم وجود أجندة مشتركة متوافق عليها للسودانيين.
ثالثا: إن الانقسامات العرقية والجهوية واضحة، وذلك إلى حد تقوقع جماعات دارفور على نفسها؛ نتيجة حجم المجازر والانتهاكات التي تم ارتكابها في الإقليم، ربما، ولكن هذا التقوقع جعلها فريسة لأعباء لا قِبَل لها بها، سواء من حيث القدرة على إغاثة أهاليهم النازحين إلى شرق تشاد أو القاهرة، أو القدرة على التفكير المشترك؛ بهدف إنهاء الحرب مع أطراف سودانية أخرى، تعبر عن حساسيات قبلية أو جهوية مغايرة.
رابعا: إن فكرة المراجعات الفكرية والسياسية لم تنضج حتى الآن، في أروقة الإسلاميين في كافة العواصم، ومن ضمنها واشنطن وهي الفكرة المطلوب التداول بشأنها من جانبهم، حتى يمكن أن يحجزوا مكانا في المعادلة المستقبلية في السودان، حيث ما زالوا يتمسكون بأخطاء المكون الثوري بلجنة إزالة التمكين، وهي الممارسات التي جعلتهم يشعرون بالاستهداف، وذلك دون حسبان أن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه، طبقا للقانون الفيزيائي المنظم للكون، وتجاهل هذا القانون من كافة الأطراف، يجعل معادلات وقف الحرب قيد حالة من الجمود.
خامسا: إن هناك حالة إنكار بشأن المسئولية السودانية الداخلية عن الحرب المشتعلة حاليا، حيث ترى بعض قطاعات النخب السودانية، أن تقاطع المصالح الإقليمية والحرب على الموارد على المستوى الدولي، هي السبب في هذه الحرب، وبالتالي تتم ممارسة نوع من أنواع المحاكمات لنخب هذه الدولة، أو تلك في محاولة لإبراء الذمة، حيث يتم تجاهل فحوى الخطاب المقدم بشأن النقاش حول سبل إنهاء الحرب، والقفز مباشرة إلى ممارسة لوم الأطراف الأخرى، بغض النظر عن مسئولية هذه الأطراف الواقعية.
سادسا: إن عملية السلام في السودان تتطلب التوافق على أطراف العملية السياسية اللاحقة للحرب، هو أمر ما زال محلا للاستقطاب والمناورات بين الأطراف، وينعكس في عملية إنتاج خطابات الكراهية، خصوصا مع توسع الجيش في اعتبار رموز القوى السياسية من منتسبي الحكومتين المدنية أعداء للوطن، وتحريك اتهامات ضدهم من جانب النيابة العامة السودانية.
سابعا: إن الصراع بشأن أطراف العملية السياسية ينعكس مباشرة عن فحوى العملية السياسية المطلوب بلورتها؛ لتساهم إجرائيا في وقف الحرب، وترتيبات بناء السلام والدولة معا.
ثامنا: على المستوى الأمريكي، هناك إدراك سوداني عام بتخبط الإدارة الأمريكية في إدارة الملف السوداني خلال الفترة الماضية، خصوصا فيما يتعلق بالموقف من مصر، وهو ما يعد في تقديرنا أحد أسباب أزمات المكون المدني مع مصر قبل الحرب، وعلى صعيد مواز تسببت تطورات الحرب ميدانيا، ومستوى ممارسة العنف والتوحش فيها، والشكوك في وجود ميداني لميليشيات متطرفة، من بينها تنظيم داعش، في نقل الملف السوداني من أحد إدارات الخارجية الأمريكية إلى الجهات الأمنية الأمريكية المكافحة للإرهاب.
تاسعا: إن هناك فاعلية يهودية ضمن عدد من المنظمات الأمريكية لإغاثة النازحين، خصوصا في شرق تشاد، كما أن النشطاء اليهود الذين كانوا فاعلين في التحريض على استقلال جنوب السودان، هم حاضرون في الملف الدارفوري بذات شخوصهم، ولديهم علاقات مباشرة بأعضاء في الكونجرس الأمريكي، وذلك فضلا عن وجود نشاط تبشيري مسيحي، يشارك فيه سودانيون.
عاشرا: إن الوجود اليهودي يلبي حاجات فعلية وموضوعية للنازحين من أهل دارفور، والذين يحاول أولادهم في الولايات المتحدة غوثهم بأي طريقة في ظل غياب الوجود العربي والإسلامي عن العمل في هذه المساحات، إذ لا تكفي المساعدات الرسمية من جانب الحكومات العربية، ولكن من المطلوب أن يمارس الشباب العربي والإفريقي الموجود في الولايات المتحدة حملات دعم، ومناصرة للنازحين الدارفوريين في المجالات الإنسانية، وكذلك دعمهم في الحصول على حقوقهم القانونية كضحايا، حيث يملك إقليم دار فور أولوية في تقديري؛ نظرا لكونه على أجندة الاستخبارات الإسرائيلية المتعلقة بالاستمرار في عملية تجزئة السودان، وهي الأجندة التي تنجح النخب اليهودية غالبا، في أن تكون حاملا لها في الكونجرس الأمريكي، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، ومراكز التفكير والأبحاث الأمريكية.
إجمالا يبدو لي، أن النقاش الذي بدأ في الولايات المتحدة بشأن محاولة بلورة دور سوداني هناك؛ لإنهاء الحرب قد يسفر عن تحرك ما، يساهم فيه السودانيون في إنقاذ بلدهم، كما نشطوا سابقا في عملية التغيير السياسي التي لم تبلور شرعية جديدة بعد.