لم تنتظر إسرائيل طويلا بعد قرار محكمة العدل الدولية الذي طالبها بضرورة وقف عملياتها العسكرية في رفح، حتى قامت بارتكاب مجازر بحق المدنيين في مختلف مناطق قطاع غزة من مخيمات تل سلطان في شمال غرب رفح، حتى مخيمات النواصي، وبدا الأمر صادما، أن يصل تحدي الدولة العبرية للقوانين الدولية والقرارات الأممية لهذه الدرجة من الصلافة والتجبر، واعتبرتها كأنها غير موجودة من الأساس.
وكانت محكمة العدل الدولية قد أصدرت يوم الجمعة الماضي قرارا ملزما لإسرائيل، بوقف “فوري” لهجومها العسكري أو أي أعمال أخرى في رفح، مشيرة إلى “الخطر المباشر” على الشعب الفلسطيني، كما أمرت المحكمة بفتح معبر رفح لدخول المساعدات الإنسانية للقطاع، إلى جانب ضمان وصول أي لجنة تحقيق أو تقصي حقائق بشأن تهمة الإبادة الجماعية.
ووفقا لقرار المحكمة يتوجب على إسرائيل، أن تقدم للمحكمة خلال شهر تقريرا عن الخطوات التي ستتخذها لتنفيذ قراراتها.
وأضافت المحكمة، إن إسرائيل لم تُؤَمِّنَ معلومات كافية بشأن سلامة المواطنين خلال عمليات إجلاء الفلسطينيين في قطاع غزة، وإن الإجراءات التي اتخذتها، لا تستجيب تماما للتطورات الأخيرة التي تجري في رفح.
قرار محكمة العدل الدولية واضح وملزم لإسرائيل، ومع ذلك اعتبرته وكأنه غير موجود، وتجاهلت من الأساس وجود محكمة دولية يحق لها أن تصدر أحكاما ملزمة، كما يحدث مع أي دولة أخرى في العالم إلا إسرائيل.
وقد سبق للدولة العبرية، أن تجاهلت منذ قيامها قرارات مجلس الأمن، واعتبرتها هي والعدم سواء. فقد أصدر مجلس الأمن منذ عام 1948، وحتى الآن عشرات القرارات ضد إسرائيل، كانت في غالبيتها الساحقة مجرد حبر على ورق، فقرار ٥٧ الذي صدر في سبتمبر ١٩٤٨، وأعرب فيه مجلس الأمن عن صدمته العنيفة لاغتيال وسيط الأمم المتحدة في فلسطين الكونت “فولك برنادوت”، ووصف من قام بهذا العمل بالجماعة المجرمة والإرهابية (وهم من اليهود، ولكنه لم يسمهم)، كما لم تحترم إسرائيل القرار الشهير 242 الصادر في 1967، وطالب بضرورة انسحاب القوات المحتلة من الأراضي التي احتلت في حرب 1967، كما أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2728 في شهر مارس الماضي مطالبا بوقف مؤقت لإطلاق النار، لم تحترمه كما هي العادة إسرائيل.
والحقيقة أن قرارات محكمة العدل الدولية لم تبدأ من اليوم، إنما تعود إلي عام ٢٠٠٤، حين أصدرت قرارا برفض بناء الجدار العازل، فلم تهتم به إسرائيل من الأصل، واستمرت في سياسة الفصل العنصري، وشيدت الجدار، تماما مثلما جرى مع ما طالبت به محكمة العدل الدولية، بأن تلتزم إسرائيل بحماية المدنيين، واعتبرت أن هناك شواهد، على أنها تقوم بإبادة جماعية، وطالبت بوقف الأعمال العسكرية في رفح، وهو ما استمرت إسرائيل في القيام به دون أي كوابح.
من الواضح أن الدولة العبرية عمقت وضعها ككيان فوق القانون والشرعية الدولية، وأصبح لديها حصانة خاصة ووضع استثنائي يضعها في كفة في مقابل باقي دول العالم، وهو أمر سيكون له تداعيات خطيرة على السلم والأمن الدوليين.
خطورة الاستثناء الإسرائيلي، إنه يفتح الباب أمام تقويض مؤسسات الشرعية الدولية، ويدعم من مبررات كل التنظيمات والأطراف الدولية التي تتحرك خارج إطار مؤسسات الشرعية الدولية، وتعتبرها غير فاعلة وأحيانا غير نزيهة.
إن مبررات تصاعد دور تنظيمات ما فوق الدولة ((Non-state actors)) تتزايد بسبب الاستثناء الإسرائيلي، وأصبح لسان حال كثيرين، أن دولة مدنية مندمجة في النظام الدولي مثل جنوب إفريقيا، وليس لها علاقة بمحور الممانعة أو بتنظيمات ما فوق الدولة، ومع ذلك فشلت في وقف الإبادة الجماعية أو وقف إطلاق النار، فلنا أن نتوقع أن هناك ملايين ستقول، ماذا أخذنا من الشرعية الدولية والقانون الدولي، وإن الحل في الخروج عن قواعده التي لم تُعِد أي حقوق في ظل الاستثناء الإسرائيلي.
استمرار المؤسسات الدولية في سياسة الكيل بمكيالين، وانحيازها الفج لإسرائيل، قضى على مبادئ العدل والمساواة بين الشعوب، ولم تستطع حتى الآن، أن توقف حتى المذابح، ولا نقول استعادة الحقوق، وهو ما سيفتح الباب أمام فوضى حقيقية في النظام الدولي، وتهديد حقيقي للسلم والأمن الدوليين.
الاستثناء الإسرائيلي ممتد منذ قيام الدولة العبرية، وتعمق مع حرب غزة، فلا توجد دولة في الكرة الأرضية، دللها المجتمع الدولي مثلما فعل مع إسرائيل، ومن المستحيل أن نجد دولة احتلال، تضامنت معها القوى الكبرى، مثلما فعلت أمريكا وأوروبا مع الدولة العبرية، ومن الصعب تبرير هذا الضعف العربي في التعامل مع دولة خارجة على القانون، مثلما يحدث مع إسرائيل.
الاستثناء الإسرائيلي ليس فقط خطر على الشعب الفلسطيني، وعلى حقوقه العادلة في بناء دولته المستقلة والانعتاق من الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، إنما خطر على العالم وعلى القوانين الدولية، وعلى تكريس خطاب العنصرية، وبث الكراهية والتحريض على الحروب الدينية.
ما دام بقي الاستثناء الإسرائيلي، فسيستمر الحوثيون وستزداد قوة حزب الله والفصائل العراقية، وسيزداد التطرف الديني وسنشهد فوضي وعنف وإرهاب، يفوق موجة ١١ سبتمبر، وسيصبح العالم كله أمام أخطار حقيقية.