بدت الاشتباكات عند معبر رفح بين الجيشين المصري والإسرائيلي محدودة بآثارها المباشرة، لكنها اكتسبت خطورتها من رسائلها إلى المستقبل.
في حدود ما نشر، لم تستبن القصة الكاملة، لما جرى عند معبر رفح، حجم الاشتباكات وأسبابها المباشرة.
خطورتها في سياقها والأجواء الملتهبة التي أحاطت بها.
“غزة يا رب”.
كان ذلك دعاء من القلب سجله المقاتل المصري “عبد الله رمضان”، في صفحته الشخصية على “الفيس بوك”، قبل أن يلقى ربه شهيدا باشتباكات الحدود.
إنها رسالة موجزة ومفعمة بالمشاعر والتحديات، لا تخصه وحده.
“لا إله إلا الله.. الشهيد حبيب الله”.
كان ذلك هتافا ردده أبناء قريته في محافظة الفيوم أثناء جنازته لخص اعتزازهم بالتضحية من أجل حياة الأوطان.
لم يكن أول من دفع حياته ثمنا لتحدي الاستفزازات الإسرائيلية عند حدودنا الشرقية، فقد سبقه مقاتلون آخرون، أولهم “سليمان خاطر”، الذي جاء موته في زنزانة سجن غامضا ومريبا، و”أيمن حسن” الشهيد الحي الذي يكابد الحصول على ما يستحقه من علاج، و”محمد صلاح”، الذي ألهم فكرة التضحية مجددا.
لا تتوافر أية تفاصيل عن الحادث الحدودي، الرواية الإسرائيلية أخضعت للرقابة العسكرية، والرواية المصرية تأنت حتى تستكمل تحقيقاتها.
التفاصيل ضرورية لاستكمال الحادث وأبعاده، تشرحه وتفسره.
السؤال الرئيسي هنا: كيف بدأت الاشتباكات؟
إذا صح ما قاله الإسرائيليون، إن المصريين هم الذين بدأوا بإطلاق النار، فأين كان وجه الاستفزاز الإسرائيلي بالضبط؟
بنظرة عامة على مسرح الحادث الحدودي، سياقه وما حوله، فإنه ماثل- أولا- في الخرق الفادح للبروتوكولات الأمنية الموقعة بموجب اتفاقية “كامب ديفيد”.
وماثل- ثانيا- في اقتحام الشق الفلسطيني من معبر رفح واحتلاله بالدبابات ورفع العلم الإسرائيلي عليه.
وماثل- ثالثا- في السيطرة على محور فلادليفيا بالمخالفة الصريحة لأية ترتيبات أمنية مسبقة بذريعة وجود أنفاق تحته تمر من خلالها شحنات سلاح ومعدات وأغذية إلى داخل غزة.
وماثل- رابعا- في مجازر غزة حيث تجري حرب إبادة وتجويع دون رادع وحساب.
السياق يفصح عن حقائقه.
لا يمكن فصل مشاهد “مجزرة الخيام” المروعة في رفح الفلسطينية عن اشتباكات اليوم التالي عند الحدود.
الجثث أحرقت بالكامل، أطفال قطعت رؤوسهم، والوحشية المفرطة خيمت على المكان الذي وصف بالأكثر أمنا في قطاع غزة!
ولا يمكن فصل المجزرة عن الأمر الذي أصدرته محكمة “العدل الدولية” قبلها مباشرة بوقف الهجوم الإسرائيلي على رفح فورا، كأن تل أبيب أرادت أن تقول، إنها فوق القانون الدولي، تفعل ما تشاء، وتقتل كما تشاء دون أن تخضع لحساب، أو عقاب.
لحقت “مجزرة الخيام” مجازر أخرى وبدت رفح الفلسطينية المكتظة بمليون ونصف المليون نازح كمعسكر موت جماعي.
بتحذير “جون كيربي” المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، فإن إسرائيل تعرض نفسها الآن للعزلة الدولية.
تحذيره يكتسب أهميته الفائقة، من أنه دأب على دعم إسرائيل والانحياز لها.
في رسالة موازية تعالت أصوات داخل الاتحاد الأوروبي، تدعو إلى فرض عقوبات رادعة على إسرائيل، حتى تمتثل لأوامر محكمة “العدل الدولية”.
لم يكن ذلك ممكنا حدوثه، لولا ما أبداه الفلسطينيون من استعداد لبذل التضحيات الهائلة ثمنا؛ للتشبث بأراضيهم حتى لا تكون هناك نكبة ثانية.
أفضل ما ينسب للمقاومة في غزة، أنها قاتلت في ظروف شبه مستحيلة، صمدت بأكثر من أي توقع، وأوصلت النخبة العسكرية والأمنية الإسرائيلية إلى استنتاج أخير، أن اجتثاثها مستحيل، وأن إسرائيل توشك أن تدخل في كارثة تاريخية، إذا لم توقف الحرب فورا.
بقوة الصمود الفلسطيني جرى إفشال مشروع التهجير القسري من غزة إلى سيناء.
كان هناك رفض مصري، رسمي وشعبي، غير أنه ما كان ممكنا أن يصل إلى أهدافه، إذا لم تكن هناك مقاومة فلسطينية تتشبث بأراضيها تحت أسوأ حروب الإبادة في التاريخ الإنساني الحديث.
المقاومة دافعت عن السيادة المصرية على سيناء بقدر ما دافعت عن فلسطينية غزة.
هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، أو التجهيل بها.
غزة مسألة أمن قومي مصري.
وهذه حقيقة أخرى تتأكد مرة بعد أخرى بفواتير الدم.
يستلفت النظر هنا الحرص الإسرائيلي البالغ على توريط مصر في مستنقع الدم، كما لو كانت شريكة بالتواطؤ فيه!
قبل عملية رفح مانع رئيس الأركان الإسرائيلي “هرتسي هاليفي” فيها قائلا أمام الكاميرات، إنه لا يمكن أن تحقق أهدافها دون تنسيق مسبق مع مصر.
هكذا بالحرف.
مصر اعترضت مبكرا على ذلك السيناريو.
كان ذلك داعيا إلى تفكير آخر يتبنى فرض الحقائق على الأرض.
تبدى عاملان رئيسيان في الحساب الإسرائيلي.
الأول، أمريكي بالتحفظ، لا الرفض، على عملية واسعة في رفح تفضي إلى مجازر، يصعب تسويغها في الانتخابات الرئاسية نوفمبر المقبل.
والثاني، مصري خشية أن تؤثر ردات فعله على اتفاقية “كامب ديفيد”، التي تعتبرها إسرائيل الحدث الأهم في تاريخ الدولة منذ تأسيسها.
بدا التوريط بالإيحاء مقصودا كي تقول للفلسطينيين، إن الدولة العربية الأكبر والأهم قد تخلت عنكم، ولم تعد تأبه بمصيركم.
ردت القاهرة برسالتين، أولهما، “أن كل الخيارات مفتوحة” دون أن تتبدى خطوات فعلية، تردع الجموح الإسرائيلي.
كانت تلك العبارة محاولة غير مكتملة لتهدئة مخاوف الرأي العام، ودواعي قلقه على أمنه القومي ومستقبل القضية الفلسطينية.
وثانيهما، التلويح في الغرف المغلقة بتعليق، لا إلغاء “كامب ديفيد”، لكنه افتقد أثره بالتصريحات المتواترة على لسان وزير الخارجية “سامح شكري” بمناسبة، وبدون مناسبة أن “كامب ديفيد خيار استراتيجي”.
“كامب ديفيد” ليست مقدسة، كما قال ذات مرة الدكتور “نبيل العربي”، عندما تولى حقيبة الخارجية بعد ثورة يناير (2011)، وقد اكسبه ذلك التصريح شعبية هائلة بالعالم العربي.
الالتزام بالاتفاقيات الدولية يقتضي احترام طرفيها، لا طرفا واحدا، لما تنص عليه من ترتيبات أمنية على الحدود.
إذا غاب الالتزام المتبادل تفقد أية اتفاقية أسباب وجودها.
تضارب التصريحات المصرية أفقد التلويح بتعليق “كامب ديفيد” جديته واحترامه.
التحرش بمصر وصل إلى حد التعريض العمدي بأدوار الوساطة التي تلعبها، واتهامها عبر محطة الـ “سي. إن إن” الأمريكية بمسئولية إفشال التوصل إلى اتفاق تبادل للأسرى والرهائن، يفضي إلى تهدئة مستدامة.
ادعى ذلك التقرير غير المهني وغير الصحيح، أنها أدخلت على مسودة الاتفاق تعديلات، طلبتها “حماس” دون أن توافق عليها إسرائيل.
الحقيقة أن “وليام بيرنز” رئيس الاستخبارات الأمريكية تابع المفاوضات غير المباشرة وأقر المسودة التي أعلنت.
كان القصد السياسي تبرئة “نتنياهو” من مسئولية إفشال الصفقة، وإحالتها إلى المسئولين المصريين عن ملف التفاوض.
كان أسوأ ما قيل وتردد عبر فضائيات وصحف عديدة، مصرية وغير مصرية، أن هناك من يعمل على توريط مصر في حرب غزة، كأنه لا توجد خيارات أخرى تعلي من شأن البلد ودوره في محيطه.
هناك ما يسمى بقوة الردع، ورصيد مصر لا يستهان به.