بعد تكليف الرئيس عبد الفتاح السيسي، الدكتور مصطفى مدبولي بتشكيل الحكومة الجديدة، ما هو مستقبل الحوار الوطني ومخرجاته؟ وماذا ينتظر منه، ومن الحكومة الجديدة في ضوء ما جرى الأيام الماضية؟

فبعد إجازة مفتوحة مع بدء شهر رمضان، عادت اجتماعات مجلس أمناء الحوار الوطني مرة أخرى يوم السبت، الأول من يونيو 2024. فعقب رفع توصيات الحوار الاقتصادية المتصلة بالأساس بموضوعات التضخم والغلاء، وتدهور قيمة العملة المحلية وزيادة الدين الخارجي إلى رئيس الجمهورية، بدأت الاجتماعات مرة أخرى، بعد تكليف رئيس الجمهورية لدوائر الحوار بفتح ملف الأمن القومي من زاوية السياسة الخارجية، وهو الملف الذي ألزم المجلس ذاته، منذ اليوم الأول بعدم فتحه، إذ لم يذكر رئيس الجمهورية– إحقاقا للحق- ولو مرة واحدة، أنه لا يرغب من الحوار في فتح هذا الملف.

حسنا فعل رئيس الجمهورية بحتمية فتح هذا الملف، لا سيما، وأن الأحداث التي تمس الأمن القومي المصري من الزاوية الخارجية، أصبحت كثيرة ومتشعبة، فإضافة إلى أن هناك أمور تمس هذا الأمن من الزاوية الداخلية كالدعم ومحاربة الإرهاب والأمن الغذائي والمائي، هناك لا شك عديد الموضوعات التي تمس الأمن القومي من زاوية السياسة الخارجية والعلاقات الدولية لمصر.

بالطبع مسألة غزة على رأس الأولويات، ومسألة سد النهضة غاية في الأهمية، يلي ذلك بالطبع المشكلات المرتبطة بالعلاقات مع الدوائر الإقليمية وغير الإقليمية المختلفة الدائرة العربية، وفي القلب منها السودان وليبيا، والدائرة الإفريقية التي التهمها الغير، بعد أن باعها النظام الأسبق عقب محاولة اغتيال مبارك في يونيو 199… إلخ.

مسألة غزة مهمة للغاية، ومن المهم بالطبع، أن تعقد لها جلسات استماع تخصصية من قبل الحوار الوطني، يحضرها المتخصصون في الأمن القومي، ومن المخابرات العامة التي تدير هذا الملف قبل وزارة الخارجية، بحيث يستمع هؤلاء، لما يقوله كبار المتخصصين في هذا الملف، بشأن موقف مصر بشأن مستقبل غزة بعد الحرب، وموقف مصر من القضاء الدولي بمعنى موقفها من مسألة اتهام إسرائيل وقادتها بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، حتى لا يكون عملها مجرد رديف أو ملحق لعمل جنوب إفريقيا في المؤسسة الأولى، والعلاقات مع الكيان الصهيوني في الوقت الحالي (مسألة التفاوض بشأن الأسرى الصهاينة والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال)، وكذلك مستقبل هذه العلاقات، خاصة إدارة معبر رفح، والتطبيع مع الكيان الصهيوني.

حسنا فعل مجلس الأمناء بإصدار بيان توطئة لهذا الحوار، الذي يجب أن يستمر لعدة جلسات، تسمع فيه إسرائيل الصوت الشعبي المقابل للصوت الرسمي؛ فترى ما يرغب فيه الناس من تجميد أو إلغاء الاتفاقات الموقعة، وعودة ملء سيناء بسلاح الجيش بلا ضوابط، تحد من سيادة مصر على أرض سيناء، كما ورد في اتفاقيتي كامب ديفيد في سبتمبر 1978، حتى لا تخضع مصر لابتزاز المتطرفين الصهاينة، وغيرها من مواقف التي ستدعم المفاوض المصري دون شك.

لكن قبل ذلك كله أشار المجلس إلى ضرورة مخاطبته للجهات القضائية، ويقصد النيابة العامة لسرعة الإفراج عن الطلبة وغيرهم من المحبوسين على ذمة قضايا التظاهر لصالح فلسطين، وهؤلاء هم المقبوض عليهم من قبل الأمن الوطني في القضايا أرقام 2469 و2468 و2463 لسنة 2023. ويعتبر هذا الأمر إنجاز كبير من مجلس أمناء الحوار الوطني مقارنة، بما جرت عليه عادة المجلس في الأشهر الماضية، حيث كان هناك إصرار على عدم مخاطبة النائب العام بشأن المحبوسين احتياطيا على ذمة قضايا الرأي المختلفة، خشية إلا يعد ذلك تدخلا في أعمال السلطة القضائية، وهو بلا شك، موقف كان يعبر عن حساسية مفرطة من قبل مجلس الأمناء.

يبقى السؤال، ونحن على أعتاب حكومة جديدة، هل سيتعامل الحوار الوطني مع تلك الحكومة بنفس منطق تعامله مع الحكومة السابقة، خاصة وأن رئيسها شخص واحد؟ للإجابة عن هذا السؤال من المهم الإشارة إلى أن مجلس أمناء الحوار أظهر دوما خشيته، من أن ينظر إليه من قبل المواطن، أنه يمالأ الحكم، ويقف ضد مصلحة المواطنين، وهذا الموقف كان المجلس حريص عليه منذ زمن، وزاد حرصه بعد غضب بعض الأعضاء وانسحابهم التكتيكي من حضور الجلسات الأخيرة للمجلس، دون أن يفاقم هؤلاء الوضع بإعلان انسحابا نهائيا أو استقالة. لذلك كانت هناك ثلاثة موضوعات مهمة، تطرق إليها المجلس في اجتماعه الأخير، حتى لا يرى أنه يحابي السلطة، وحكومة مدبولي على مصلحة الناس، لكنه وعلى الأرجح بسبب استمراء غياب بعض رموز المعارضة من حضور الجلسات، لم يحدث أي اختراق في الموضوعات الثلاثة من خلال إصدار بيانات بشأنها، ما جعل اجتماعه الأخير بمثابة، من يقدم قدم إلى الأمام (يقصد مناقشاته الثورية)، والعودة قدمين إلى الخلف (إصدار بيانات محدودة الأثر): –

الأمر الأول، هو البحث الجاد في تراجع الأوضاع الصحية في مصر على خلفية ثلاثة أمور. الأول، ارتفاع أسعار الدواء والمستلزمات الطبية، وشح الكثير منها في الأسواق. والثاني، قرار وزير الصحة رقم 75 لسنة 2024 برفع قيمة الكشف الطبي بالعيادات المتخصصة بالمستشفيات، وصرف علاج واحد فقط بالمجان لمرضى الوحدات الصحية. والثالث، مناشدة رئيس الجمهورية بعدم التصديق على قانون تأجير المستشفيات الذي أقره البرلمان، لما فيه من خرق واضح لمقترحات الحوار الوطني. الأمر الأول والثاني ووافق عليهم، أما الأمر الثالث، فاعترض نفر من الأعضاء، لأنه سيزيد الحساسية بين البرلمان والحوار الوطني، وكأن الخشية على مشاعر نواب (ونصفهم شبة معين وفق قانون القائمة المطلقة) أكثر أهمية من الخشية من مشاعر الناس. المهم انتهى الأمر بالموافق على إصدار بيان مبتسر، يشمل الموضوعين الأول والثاني فقط، وكذلك حديث بشكل مبهم، عن أن هناك موضوعات أخرى مهمة تخص الصحة، يجب توقف صانع القرار عندها. ورغم كل ذلك انتهت اجتماعات المجلس وانتظر الجميع البيان المبتسر، لكنه أيضا لم يصدر.

الأمر الثاني، هو تطرق المناقشات إلى التقصير الشديد لمجلس الوزراء في تنفيذ توصيات الحوار الوطني الـ 135 بالمخالفة لتعليمات رئيس الجمهورية بضرورة تنفيذ مخرجات الحوار الوطني. والمعلوم أن وفد المجلس قد عقد اجتماعين مع رئيس الوزراء بغرض التنفيذ، ووعد خلال ذلك بتنفيذ 10 توصيات كل شهر، لكن لا توجد أية توصية نفذت، أو اتخذ بشأنها أي إجراء، رغم ضيق الوقت بشأن بعض الأمور مثل، إصدار قانون مجلس النواب، وقانون الإدارة المحلية، ومفوضية منع التمييز، وقانون العمل الأهلي… إلخ. المهم، أنه ذكر، أن بيانا سيعد لهذا الغرض، ورغم كل ذلك انتهت اجتماعات المجلس، وانتظر الجميع البيان، لكنه صدر مهذبا للغاية، وخالي من أي سخط على موقف الحكومة عبرت عنه الغالبية العظمى من أعضاء مجلس الأمناء، وذلك من خلال التأكيد على أن “…. دعا مجلس الأمناء إلى سرعة عقد مزيد من اجتماعات اللجنة المشتركة بين الحكومة والوزراء المعنيين، وفي مقدمتهم وزيرا التموين والصحة؛ لتنفيذ مخرجات المرحلة الأولى من الحوار….”.

الأمر الثالث، هو تطرق اجتماعات المجلس إلى ما قاله المتحدث باسم مجلس الوزراء في برنامج الحكاية مع الإعلامي عمرو أديب، عن أن مجلس الأمناء هو من استشير في رفع سعر الخبز، ثم تدارك المتحدث لرد فعل حديثه، فسحب مسئولية الحوار الوطني أو علمه بالأمر في نهاية الحديث. هنا أشير إلى ضرورة، أن يقوم المجلس بتكذيب الأمر جملة وتفصيلا، بالتأكيد أن خطوة رفع سعر الخبز تمت دون أخذ رأيه، أو حتى علمه بها. ورغم كل ذلك انتهت اجتماعات المجلس، وانتظر الجميع البيان، لكنه أيضا لم يصدر.

بالطبع صدر قرار بإقالة الحكومة وتكليف غيرها، وكان من الأوفق لو علم الغيب لصدر نقد مبرح للحكومة، لكن ما حدث، حدث. اليوم من المهم للغاية سرعة تعديل منهج التعامل بين الحوار الوطني والحكومة الجديدة، لأن إهمالها هي الأخرى لمخرجات الحوار يزيد من سخط الناس، ويحد من ثقتهم في الحوار.