بعد أربعة أيام من رفع أسعار السلع والخدمات الاستراتيجية، وفي مقدمتها رغيف الخبز المدعم، أعيد تكليف الدكتور “مصطفى مدبولي” بتشكيل الحكومة الجديدة!
بدت الصدمة مزدوجة، كأنه إغلاق أي أمل في تغيير السياسات والوجوه.
لم يكن خفض سعر رغيف الخبز المدعم مفاجئا، فالسياسات المتبعة تلح عليه وصندوق النقد الدولي يطالب به، دون ما نظر جدي في تبعاته وعواقبه.
لأول مرة منذ ثلاثين عاما، يرفع سعره أربعة أضعاف مرة واحدة من ضمن ارتفاعات كبيرة أخرى في أسعار الأدوية، والمحروقات والمشتقات البترولية والكهرباء.
بتوصيف “مدبولي”، فإنه “تحريك وترشيد” لفاتورة الدعم بذريعة، أنها تنهك الموازنة العامة!
كان ذلك تلاعبا بالأوصاف موروثا من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتحميلا للفئات الأكثر فقرا وعوزا مسئولية الفشل الاقتصادي.
بالأرقام: (70%) من المصريين يعتمدون على الخبز المدعم في سد فجوة الجوع.
إنه لعب بنار الأسعار، دون إدراك مخاطره على أمن البلد ومستقبله.
تحميل رئيس الوزراء المسئولية وحده تجاوز لطبيعة نظام الحكم الحالي، لا القرار قراره، ولا السياسات التي ينفذها شارك في صنعها، حسبما يقضي النص الدستوري!
يطلق المصريون على الخبز “العيش”، كأنه يرادف الحياة نفسها، إذا شح فإنها المجاعة لا محالة.
توفير الخبز، كما تنظيم مياه الري وحفظ الحدود، من مقومات شرعية أي نظام حكم في مصر.
بالتفاف ظاهر على صدمة الخبز، التي ضربت الرأي العام، أكد “مدبولي” دون أن يكون هو نفسه مصدقا لما يقول، إن الدولة لن تتخلى عن الدعم، داعيا مجلس أمناء الحوار الوطني للبحث في البدائل المقترحة!
كانت تلك إشارة أخرى إلى مستوى جدية الكلام، فالحوار الوطني انقضى دوره منذ فترة طويلة، دون أن تسفر مخرجاته عن أي تغيير اقتصادي، أو سياسي، أو اجتماعي في البيئة العامة باستثناء إفراجات عديدة عن معتقلين سياسيين.
السؤال هنا: أين مخرجات الحوار الوطني، التي قيل إنه جرى الانتهاء من صياغتها؟!
يفترض في الحوار أن يكون وسيلة لصناعة توافقات وطنية، لا أن يكون أداة تستدعي؛ لتوفير غطاء ما لسياسات مقررة سلفا.
لا أحد مستعد أن يراجع، أو أن يعترف أن هناك أزمة فعلا.
السياسات لا تتغير والأولويات لا تتبدل.
نفي الأزمة يفضي إلى تفاقمها.
هذا ما يحدث الآن.
كانت الدعوة مجددا إلى “الدعم النقدي” بديلا عن “الدعم العيني” تعبيرا آخر عن المأزق المستحكم.
طرحت فكرة “الدعم النقدي” لاول مرة قرب نهاية عهد الرئيس الأسبق “حسني مبارك”.
كان “النموذج المكسيكي” حاضرا في النقاش العام، قبل أن يتم التراجع سريعا خشية التبعات والعواقب.
ثم عادت الفكرة لتطرح نفسها عام (2014)، دون أن يكون ممكنا، أو واقعيا، تنفيذها لغياب قاعدة بيانات موثوقة، تضمن وصوله إلى مستحقيه.
نشأت فكرة دعم السلع الرئيسية لأول مرة أثناء الحرب العالمية الثانية.
استبقت ثورة يوليو وسياساتها الاجتماعية.
لم تكن اجتهادا ناصريا بقدر ما فرضتها دواعي طلب الاستقرار وسط عواصف النار.
مصر الآن في قلب الخطر واللعب بالأسعار، لا يمكن تحمل عواقبه.
الأمن القومي في دائرة النار على الحدود الشرقية، حيث تجري حرب إبادة وتجويع في غزة.
أزمة سد “النهضة” الإثيوبي حاضرة في المشهد المأزوم دون اتفاق قانوني ملزم.
انفجار أزمة المياه بأية لحظة وارد ومحتمل.
المحاور الحدودية الاستراتيجية مع السودان وليبيا وفي البحر الأحمر ملتهبة وضاغطة.
أزمات الأمن القومي تستدعي مقاربات أخرى، غير إسنادها إلى حكومة جديدة تتشكل الآن بلا صلاحيات حقيقية، أو خبرات يعتد بها.
حماية الأمن القومي تستدعي بالضرورة أوسع تماسك وطني لا اللعب بنار الخبز والسلع الاستراتيجية الأخرى.
مصر تحتاج أن تصارح نفسها بالحقائق.
لم يكن ممكنا تجاوز حافة الإفلاس، التي خيمت على البلد قبل شهور قليلة، لولا التدفقات الدولارية من المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوروبي وصفقة “رأس الحكمة”، رغم أي تحفظات عليها تتعلق بالأمن القومي.
كان ذلك استثمارا استراتيجيا في الموقع الجيوسياسي لمصر، وأهميته بالاستراتيجيات الغربية لا إعجابا بالسياسات الاقتصادية للنظام الحالي.
كما كان تعبيرا عن خشية واسعة، من أن يفضي الإفلاس المحتمل إلى أزمات نزوح وهجرة وفوضى عارمة في الإقليم كله، كما كتبت مجلة “الإيكونوميست” الاقتصادية البريطانية العريقة بالقرب من مراكز القرار الغربية.
كان الدور الأمريكي في ذلك المشهد حاضرا بالنفوذ، والإيعاز لأسباب استراتيجية لا خيرية!
المأساوي أنه قد جرى تفسير تلك التدفقات الدولارية، كشهادة ثقة دولية في الاقتصاد المصري.
كانت تلك مغالطة مع الحقائق.
مع انخفاض قيمة الدولار مقابل الجنيه، تبدت فرص لتصحيح أوجه الخلل الفادحة، لكنها بصورة أو أخرى أهدرت، ولا تبدى أدنى استعداد لمراجعتها.
الأزمة الطاحنة تعاود طرح نفسها مجددا.
الديون الأجنبية وصلت مايو الماضي (168) مليار دولار.
هذه علامة خطر مؤكدة.
وصاية صندوق النقد الدولي أحكمت قبضتها على الاقتصاد المصري في مجموعة من التوصيات الملزمة: “تسريع بيع أصول الدولة وانسحابها من النشاط الاقتصادي، واستبدال دعم الوقود غير الموجه بإنفاق اجتماعي موجه، والتوقف عن الاقتراض من الخارج ومن البنوك المصرية أيضا”.
رفع الدعم يقلل الضغط على الموازنة العامة.
هذه مسألة لا تحتاج شرحا.. لكنه في الوقت نفسه يرفع نسب التضخم، ويزيد أعباء المعيشة على المواطنين.
لا كلام في مصر عن الضرائب التصاعدية، أو الضرائب على الثروة، ولا عن عدالة توزيع الأعباء.
ارتفاع نبرة الأنين الاجتماعي إلى الضجر إنذار، لا يصح تجاهله أو التجهيل بعواقبه.
لا مصر تتحمل اضطرابات اجتماعية واسعة، ولا بوسعها أن تحتمل عواقب السياسات والأولويات المتبعة.
في ذاكرة التاريخ “انتفاضة الخبز” (18) و(19) يناير عام (1977)، التي هزت أركان نظام الرئيس الأسبق “أنور السادات”، ودعته للهرب إلى الأمام بزيارة القدس (19) نوفمبر من العام نفسه.
ألغى “السادات” القرارات الكارثة مضطرا، ودعا الجيش إلى النزول لضبط الشوارع الغاضبة.
لكنه ظل مصرا على وصف “انتفاضة الخبز” بـ “انتفاضة الحرامية”.
كانت تلك الانتفاضة الشعبية من تبعات الانفتاح الاقتصادي، الذي وصفه الكاتب الكبير “أحمد بهاء الدين” بـ”السداح مداح”.
لكل سياسة أثمانها.
أسوأ ما قد يحدث تحميل المسئولية للأمن وحده وإعفاء السياسة من أية مسئولية.
دروس التاريخ حاضرة لمن يقرأه.
مراجعة السياسات المدخل الصحيح لوقف النزيف الاقتصادي المُنذِر، وفتح المجال العام مدخل آخر لحوار جدي لا هزل فيه.