أذكر أن يوم الصحفي المصري قد تم تدشينه إلى حيز الوجود الفعلي، على أثر المقاومة التي أبداها الصحفيون المصريون عقب إصدار القانون رقم 93 لسنة 1995، ذلك القانون الذي فتح الباب لعقوبات سالبة للحرية، وشديدة على الحريات الصحفية، بخلاف موضوع الحبس الاحتياطي، ولم ينفك الصحفيون في نضالهم ضد هذا القانون، حتى تم تعديله بمقتضى القانون رقم 95 لسنة 1996، ومن هنا جعل ذلك اليوم الذي بدأ فيه نضالهم ضد ذلك القانون، وكان موافق العاشر من شهر يونيه لسنة 1995، والذي تحل ذكراه بعد يومين.

فهل الحريات الصحفية في وضعها الحالي أفضل، مما كانت عليه وقت إصدار ذلك القانون الذي ناضلوا ضده؟ وهل جماعة الصحفيين في مأمن في ممارستهم لمهام الأعمال الصحفية من تحقيقات صحفية أو مقالات رأي، أو حتى التصوير المرتبط بالعمل الصحفي؟ أم أن الوضع العام لحرية الكلمة، لم يزل تحت ضغوط من السلطات التنفيذية؛ لحجب الكلمة المعارضة عن الوصول للشعب، أو لمنع التنقيب عن الحقائق، وكشف مخالفات وأوجه قصور الحكومة في ممارسة مهام أعمالها، وهو لب العمل الصحفي، ومضمون ممارسة حرية الرأي.

وهل يحق لجماعة الصحفيين، أن تحتفل بتلك الذكرى، أم أن السبل إلى الأهداف التي ناضلوا من أجل تحقيقها، لم تزل بحاجة لمزيد من النضال؛ لتحقيق المزيد من التحرر لممارسة تلك المهنة ذات الصلة بكل أوجه الحياة وكل سبلها ومناحيها؟.

ومن زاوية تنظيرية، فهل كانت الضمانات الدستورية على مدار التاريخ كافية؛ لتكون حامية للصحفيين، أو حارسة لتلك الحرية بشكل كامل، أم أن التشريعات الأقل والمتمثلة في النصوص القانونية واللائحية والقرارات الإدارية بمثابة عائق، يحول ما بين الضمانات الدستورية والممارسة الفعلية لتلك الحقوق، على الرغم من أن الدستور قد حرص، على أن يفرض على السلطتين التشريعية والتنفيذية من القيود، ما ارتآه كفيلا بصون الحقوق والحريات العامة على اختلافها؛ كي لا تقتحم إحداها المنطقة التي يحميها الحق أو الحرية، أو تتداخل معها بما يحول دون ممارستها بطريقة فعالة، ولقد كان تطوير هذه الحقوق والحريات وإنمائها من خلال الجهود المتواصلة الساعية؛ لإرساء مفاهيمها الدولية بين الأمم المتحضرة، مطلبا أساسيا وتوكيدا لقيمتها الاجتماعية.

لكن للأسف، ومن الزاوية الحقيقية أو الفعلية لممارسة الحريات الصحفية، أجد أن الأمور ما زالت على نفس الشاكلة من القيود أو العثرات الواقعية، كيف لا، وهناك العديد من الصحفيين يغيبون خلف السجون، سواء كان ذلك بوسيلة الحبس الاحتياطي الممتد المفعول والأثر، أم من خلال عقوبات قُضي بها عن طريق مدونات أو نصوص قانونية، تذهب بالحريات الصحفية بعيدا، مثل قانون الإرهاب، أو القيم الأسرية أو التجريم الإلكتروني وغيرها من النصوص المتفرقة، والتي تقيد من ممارسة فعلية للحريات الصحفية.

وإذ أنه لا شك في كون النظم القانونية المحترمة، يجب أن تستمد وجودها من منطلق الاحتياج المجتمعي لتنظيم أمر من أموره تشريعياً، إذ إن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد، وأحكام وهو ما أطلق عليه اسم القانون، ويجب ألا تخرج الغاية العليا للتنظيم القانوني أو القواعد القانونية عن تنظيم أوجه النشاطات المجتمعية، وفض الاشتباك بين أوجه السلوك الإنساني، وبمعنى أكثر نضجا، لا يتواجد القانون، إلا إذا تواجدت الحاجة المجتمعية إليه، إذ لا حاجة ولا قيمة حقيقية للنصوص القانونية، إذا ما خرجت عن احتياجات المجتمع، أو إذا ما تجاوزت في تنظيمها لأمر من الأمور لمعنى الاحتياج المجتمعي، فخرجت بذلك عن مضمون الحماية المقررة بالقانون إلى الميل، أو التجاوز عن الهدف الأساسي للقاعدة القانونية. إلا أن النسق القانوني المصري، لم يزل غائبا عن تلك المفاهيم، منسقا بشكل تام مع إرادة السلطة التنفيذية، حتى في نطاق التشريع، وهو الأمر الذي كان معكوسه وجود أزمة صياغة وصناعة قانونية، وبشكل خاص في تنظيم أمور الحريات العامة، وبالتخصيص منها، ما هو مرتبط بممارسة حريات الرأي والتعبير.

أما عن القيود المقبولة على ممارسة الحريات الصحفية، أو حريات الرأي والتعبير، فقد عبر عنها قضاء المحكمة الدستورية العليا تعبيرًا فاصلًا في الدعوى رقم 153 لسنه 21 ق بقول المحكمة: «ومن حيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد جرى، على أنه حرية التعبير وتفاعل الآراء التي تتولد عنهما، لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي توخي قمعها، إذ يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها – وعلانية – تلك الأفكار التي تجول في عقولهم ويطرحونها عزمًا – ولو عارضتها السلطة العامة – إحداثًا من جانبهم – وبالوسائل السلمية – لتغيير قد يكون مطلوبًا، ومن ثم وجب القول، بأن حرية التعبير التي كفلها الدستور هي القاعدة في كل تنظيم ديمقراطي، فلا يقوم إلا بها، ولا ينهض مستويًا إلا عليها”.

ولكننا لو رجعنا إلى حالتنا الواقعية، وحياتنا اليومية، فلن نجد ما يمثل إلا تطبيقًا لنقيض تلك المبادئ، وتضييقًا لممارسة الحق في التعبير، وللأسف لم يحدث ذلك إلا باستخدامات أدوات قانونية، بشكل لا يتفق مع القيمة المجتمعية والتفاعل المجتمعي للقانون ذاته، والذي لا يجب إلا أن يكون تعبيرًا عن حاجة وتنظيمًا لحق، ويجب ألا يكون سنُّه مجرد أداة في يد الحكام، الذين يفصّلونه، كيفما يروق لهم، أو كيفما يدعم بقاءهم.

وبناء على ذلك فلا بد من إتاحة الفرصة كاملة للمنابر الصحفية، وذوي الأقلام لممارسة حقهم، وما يتماشى مع طبيعة مهنتهم الراقية وحقهم الطبيعي، وما تقتضيه طبيعة العمل الصحفي الحقيقي والفعال، والذي يعود بالنفع على المجتمع بأثره، إذ أن طبيعة الحياة لا تسير في فيلق أو فصيل أو حزب واحد، حيث أن إتاحة الفرصة لتعدد الآراء ومنافذ حرية التعبير، يعود أثره بشكل مباشر على جميع المواطنين وعلى تحقيق المصلحة العامة كذلك، وبالتالي يجب تفعيل النصوص الدستورية بشكل صريح وعدم توجيه الاتهامات لكل من يسعى لنقد الأوضاع مطالبا بالتصويب، هادفاً للتطوير. وهذا الأمر ما يقتضي بشكل حقيقي، أن يتم تعديل المنظومة التشريعية، خصوصا في ملف حبس الصحفيين؛ نتيجة لممارسة مهام مهنتهم، أو ملف الحبس الاحتياطي، بما يضمن عدم جواز حبس الصحفيين؛ نتيجة لأعمالهم الصحفية، ويضمن كذلك الإفراج عمن هم تحت وطأة الحبس الاحتياطي، وكذلك تعديل النسق العقابي، بما يضمن أن يكون لجميع الحريات المرتبطة بالرأي والتعبير وجودا حقيقيا فاعلا في المجتمع.