عن حكومة مدبولي الثانية، لا زال الخلاف يشتعل. الرأي العام لا زال في حالة إحباط وعجب، مما جرى. لكن وعلى أية حال، وحتى ينظر المرء إلى الأمام يبقى السؤال، وماذا بعد؟
واقع الأمر، أننا أمام شخص رئيس حكومة من أكثر الأعمار توليا لهذا المنصب فمنذ عام 1952، وإبان الحقبة الناصرية، وحقبة الرئيس السادات، فحسني مبارك، ود. محمد مرسي، والقاضي عدلي منصور، وحتى اليوم كان شخص د. عاطف صدقي، هو الأطول في عمر الوزارات المصرية (9 سنوات وشهران). وكان أحمد نظيف هو الثاني (6 سنوات و6 أشهر)، اليوم بإعادة تكليف د. مصطفى مدبولي، سيكون في الأيام القادمة هو الأسبق من أحمد نظيف. ماذا يعني ذلك؟
يعني أمرا أو أكثر أو كل ما هو تال: –
ثقة وأداء جيد: بمعنى أن هناك نوع من رضاء قوى أو على الأقل مقبول من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، رأس السلطة التنفيذية في مصر، على أداء الدكتور مصطفى مدبولي، وهو على أي حال مهندس معماري، وعضو في مجلس الوزراء، منذ حكومة م. إبراهيم محلب الأولى كوزير للإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، وهو أيضا مهندس معماري. وكلاهما (على أي حال) ساهما في بناء شبكة الطرق والمواصلات التي أولى الرئيس لها عناية أكثر من أي شيء آخر.
صعوبة وجود شخص آخر: عادة ما نسمع تلك الكلمة عند تعثر عملية الاختيار، وبقاء عملية التكلس والتجلط في النخبة السياسية. هذا الأمر يرتبط عادة بالملل من الاختيار، أو الإحباط من وجود جديد محتمل في الأفق، وأكبر مؤشرات الدالة على ذلك هو تولي شخص موقعين أو ثلاثة في وقت واحد، بسبب ذريعة أنه لا يوجد الكثير ممن يثق بهم صانع القرار أو الجهاز الأمني القائم على النظر لتاريخ الناس، من حيث الولاء وإطاعة الأوامر، دون الكثير من النقاش أو الجدال.
خبرة قديمة: قد يكون سبب بقاء الدكتور مدبولي هو عدم الرغبة في وجود تغيير، يصحبه وجود أشخاص جدد، سيقومون بدراسة الملفات منذ البدء، ما يجعل الأفضلية في فكر صانع القرار هي لمن هو دارس للمشكلات ومدرك لمخاطرها، دون أن يعني ذلك بأي حال القدرة على تخطيها وتجاوزها. بعبارة أخرى، طالما لدينا من هو يدرك المصاعب ومواطن الخلل، فما هو السبب الذي يجعل المرء، يخوض ويضيع الوقت؛ لكي يعين آخر حتى لو توسم فيه الكثير، أن لديه أفكارا خارج الصندوق المجرب والمقتول بحثا وتجربة.
على أية حال، لدينا مشكلات جمة على رأسها التحدي الاقتصادي، فرئيس الوزراء مصطفى مدبولي، تسلم إدارة الحكومة في 7 يونيو 2018، وكان حجم الدين الخارجي لم يبرح الـ 96,6 مليار دولار، (وفقا لبيانات البنك المركزي)، ومعدل الفقر بين السكان لم يخترق حاجز الـ 32,5% قبل أن ينخفض في العام التالي 19/ 2020 إلى 29,7 % (وفقا لبيانات البنك المركزي)، ونسبة التضخم في أسعار السلع والخدمات لم تزد عن 17,6% (وفقا لبيانات البنك المركزي). اليوم أصبح مدبولي يواجه مشكلات كبيرة في دولة كبيرة، زاد عدد السكان فيها بالداخل عن 106ملايين نسمة، وأصبح حجم الدين الخارجي فيها يتجاوز الـ 165مليار دولار، دون إضافة خدمة الدين وكذلك الدين الجديد لصندوق النقد الدولي الذي اتفقت مصر عليه مطلع العام 2024، وكذلك دين الاتحاد الأوروبي الذي أقره الاتحاد في17مارس الماضي. أما معدل الفقر فقد وصل إلى 37,5%، أي أنه تجاوز ثلث عدد السكان، ونسبة التضخم السنوي التي أصبحت 35,7% (وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في فبراير 2024).
هنا من المهم الإشارة، إلى أن مشكلة الدين الخارجي ترتبط بالخلل بين الإنتاج والاستهلاك، ومن ثم فإن العمل الدائم على زيادة قيمة الصادرات، وفتح المصانع المغلقة هي أهم روشتة؛ للخلاص من أزمة الخفض المتوالي لقيمة العملة المحلية.
أولويات الإنفاق واحد من أهم المعضلات التي تواجه د. مصطفى مدبولي، وهي مشكلة كبيرة، لأن رئيس الجمهورية يظهر أحيانا، أنه له أولويات أخرى تختلف مع رؤية الاقتصاديين وتكنوقراط الحكومة، الذين لم يشاؤوا أن يختلفوا معه. مما لا شك فيه، أن قرار الحكومة السابقة بإيقاف الصرف على المشروعات التي تبتلع قدر هائل من النفقات سيحد– إذا ما طبق- من الاقتراض من الخارج.
الأمر المهم الآخر، هو أن البلاد مع المصاعب الاقتصادية باتت تعتمد بشكل كبير على مصادر النقد الأجنبي التقليدية، من تحويلات العمالة في الخارج وعائد السياحة الخارجية ودخل قناة السويس، ومعظم تلك المصادر تتأثر بالتقلبات الخارجية، كما حدث ولا زال بالنسبة لتأثر قناة السويس بتدخل جماعة أنصار الله في اليمن في أحداث غزة.
لا شك أن البلاد عليها في الفترة الأخيرة، أن تتخلص من تلك المشكلة عبر ارتباط الاقتصاد بثلة عملات أجنبية رئيسة كاليوان الصيني والروبل الروسي واليورو الأوروبي، لأن ما جرى عليه العمل، هو الاعتماد على الدولار وحدهن رغم أن الولايات المتحدة ليست هي الشريك التجاري الرئيس مع مصر.
تحدي آخر يرتبط بما سبق وهو دعم الاستثمار الأجنبي، أو ما بات يعرف لدى الكثيرين من الداعمين والناقدين للحكومة المصرية ببيع الأصول. هنا تبدو المسألة في حاجة إلى تفكير كبير بشأن شكل القيود الخاصة، والعامة على الاستثمار الأجنبي في مصر. قيود خاصة، لأن بيع الأصول مرتبط بمكانها، ومن ثم بأمن البلاد، والكلام هنا يخص سيناء على وجه التحديد. وقيود عامة، لأن المستثمر الأجنبي بات يفكر بشكل يهدف إلى بخس ثمن الأصول، ومن ثم فإنه اعتاد، على أن التعويم يليه تعويم، لذلك فهو ينتظر دوما التعويم التالي للوصول إلى أقل سعر للجنيه. على أية حال، فإن ما يلي عملية بيع الأصول لا يقل أهمية عن فترة طرح الأصول. بعبارة أخرى، من المهم ضمان أن تقوم الحكومة المصرية في الفترة القادمة بضمان أن يهدف الاستثمار الأجنبي لمزيد من التشغيل والتوظيف، وكذلك الاتفاق على كيفية تنظيم خروج عائد تلك الاستثمارات خارج البلاد، حتى يستفاد الطرفان من تلك العوائد. وفي جميع الأحوال لا يجب لاقتصاد، يعيش منذ فترة في غرفة الإفاقة، أن يعتمد فقط على بيع الأصول، بل يجب أن يكون أساس عمله حفز الصادرات السلعية والخدمية.
التحدي المهم أيضا، هو ذلك المرتبط بالأمن الاجتماعي، ومن ثم ضرورة العمل على بقاء منظومة الحماية الاجتماعية في تصاعد مستمر، وذلك لرفع العبء عن كاهل المواطنين المنتمين للطبقتين الدنيا والوسطى. فحزم الرعاية الاجتماعية، رغم كثرتها إلا أنها لم تعد كافية لمواجهة الفوارق الطبقية الكبيرة، والغلاء الدائر بلا مكابح في أسعار الغذاء. هنا يكون من الأجدى لحكومة د. مدبولي، أن تضرب بيد من حديد على الاحتكار والمحتكرين. هنا من المهم التذكير، بأن واحد من أهم المشكلات التي تواجه مسألة الحماية الاجتماعية هو تقاعس الحكومة عن مواجهة التجار والمستغلين، والركون إلى ما يقوله الرئيس دوما (عايزين الأسعار ترخص ما تشتروش الغالي منها)، وكأن دور الدولة في ضبط الأسواق قد أصبح والعدم سواء، لا سيما وقد أصبح من المعلوم للكافة، أن كل السلع أصبحت مرتفعة الثمن.
من أولى وأهم الخطوات في توفير النفقات بغرض الحماية الاجتماعية، هو ضغط الإنفاق الحكومي، وكذلك الضرائب المتصاعدة لصالح الفئات الأولى بالرعاية. وهذ الأمر الأخير مهم؛ لأن هناك عديد الأنشطة والقطاعات لا تخضع للنظام الضريبي، ويقع معظمها عند أصحاب الدخول الضخمة والثروات، بسبب ما يتمتع به هؤلاء من نفوذ سياسي واجتماعي، يمكنهم من مقاومة أية تعديلات تشريعية ضريبية. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ارتفاع صخب الكثيرين عند الحديث كل مرة على ضرورة فرض ضرائب على المعاملات في البورصة والأرباح الرأسمالية الناجمة عنها.
غاية القول، أن حكومة مدبولي الجديدة من الضروري، أن تلجأ لعديد الإجراءات، حتى لا تفاجأ بأن تعويم 6 مارس الأخير، ما هو إلا سلسلة ضمن تعويمات سابقة ولاحقة، ترهق كاهل الاقتصاد.
بشأن المجال العام، لا يعتقد أن حكومة مدبولي قادرة على فعل الكثير، لأن هذا الملف أمني بالأساس، بمعنى أنه بيد الأجهزة الأمنية المختلفة، وبيد رئيس الجمهورية وأخيرا بيد النيابة العامة، لأنه ملف معني بالأساس بالحبس الاحتياطي، وحقوق السجناء وحق الرأي والتعبير. لكن هناك دون شك أمور أخرى من المهم، أن تتخذ حكومة مدبولي الجديدة قرارا سريعا. هنا من الضروري التذكير بأن توصيات الحوار الوطني المتصلة بفتح المجال العام مهمة للغاية، أبرز الأمثلة على ذلك هو ضرورة دفع الحكومة بعدة مشروعات قوانين بغرض دعم حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان، ومن ذلك سن قانون الانتخاب، لا سيما ونحن على أبواب انتخابات برلمانية جديدة بعد أشهر قليلة، وكذلك سن قانون المحليات وفي القلب منه عقد انتخابات المجالس المحلية الغائبة عن المشهد لعقد ونيف، وكذلك سن قانون مفوضية التمييز وتعديل قانوني الأحزاب السياسية ومباشرة الحقوق السياسية.
كل هذه الأمور مهمة، وتنتظر تدخل حاسم وسريع.