مع استمرار أزمات الاقتصاد المصري، تتزايد التساؤلات حول نتائج الإصلاح الاقتصادي الذي نفذته الحكومة مع صندوق النقد الدولي، وموعد تحقيق وعود الحكومة بـ “جني ثمار الإصلاح” التي يرى قطاع عريض من المواطنين، إنها لم تنتج حتى الآن “بشائر” تنعكس على حياتهم، وعلى مستوى معيشته.
وأعلن صندوق النقد الدولي الخميس، عن التوصل مع السلطات المصرية إلى اتفاق على مستوى الخبراء بشأن مجموعة من السياسات والإصلاحات الشاملة اللازمة؛ لاستكمال المراجعة الثالثة بموجب اتفاق تسهيل الصندوق الممدد، ما يسمح لمصر بالحصول على 820 مليون دولار، بعد موافقة المجلس التنفيذي للصندوق على المراجعة.
في اليوم التالي، أكد الدكتور محمد معيط، وزير المالية بحكومة تسيير الأعمال، خلال ورشة عمل مع مركز المساعدة الفنية للشرق الأوسط التابع لصندوق النقد الدولي، أن الحكومة ملتزمة بالإصلاح الاقتصادي؛ لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية، وبناء اقتصاد أقوى، يعتمد بشكل أكبر على الإنتاج المحلى والتصدير للخارج، وتحسين مناخ الأعمال وتحفيز نمو القطاع الخاص، لدفع حركة النشاط الاقتصادي، مع استهداف زيادة تدفق الاستثمارات الخاصة.
تدور التساؤلات حول أسباب استمرار الأزمات، منذ تطبيق الإصلاح الاقتصادي الذي يعني في الأوساط المالية والنقدية حزمة إجراءات هادفة إلى معالجة الاختلالات الهيكلية للاقتصاد الوطني، فهل السبب صندوق النقد؟ أم السبب سياسات اقتصادية خاطئة؟ وهل أفرطت الحكومة في التوقعات؟ ومتى يشعر المواطن بالتحسن؟.
حلول مؤقتة لمشاكل اقتصادية مزمنة
توجز دراسة حديثة للمركز المصري للدراسات الاقتصادية بعنوان “هل خرجت مصر بالفعل من أزمتها الاقتصادية؟ الإجابات على نتائج الإصلاح الاقتصادي في مقولة واحدة: “الأزمة الاقتصادية بمصر لم تنتهي، وما تم تبنيه حلول مؤقتة لمشاكل اقتصادية مزمنة بالفعل”.
تقول الدكتورة عبلة عبد اللطيف، المدير التنفيذي ومدير البحوث بالمركز، في تعليقها على الدراسة، إنه رغم التأثير الواضح للأوضاع العالمية المرتبكة على اقتصاد مصر بداية من انتشار جائحة كوفيد 19 مرورًا بحرب روسيا – أوكرانيا، وانتهاءً بحرب غزة، إلا أن الضعف الهيكلي المؤسسي للاقتصاد المصري فاقم من الأزمات وزاد من حدتها، وأدى لدائرة مفرغة من ضعف الأداء.
شددت الدراسة، على أن الخروج من الأزمات الاقتصادية بشكل دائم يتطلب تنفيذ إصلاحًا مؤسسيًا كاملاً وتغييرا بالسياسات، بالتزامن مع تنفيذ برنامج صندوق النقد الأخير الذي اعتبرته الدراسة بجانب اتفاق رأس الحكمة فرصة جوهرية، لن تتكرر بسهولة لطبيعة ظروفها ولتكرار المشاكل الاقتصادية.
بحسب عبد اللطيف، فإن الإصلاحات المؤسسية المطلوبة ليست بالضرورة إجراءات طويلة المدى، ولكن هناك إصلاحات يمكن تنفيذها على المدى القصير، وتؤدي لنتائج إيجابية سريعة، لأن هذا هو الطريق لتحقيق معدلات نمو، تتناسب مع قدرات مصر الاقتصادية.
ارتفاع كبير بسعر الصرف
بحسب البيانات الرسمية، قفزت أسعار صرف العملات الأجنبية بشكل كبير، خلال السنوات الثماني الماضية، إذ صعد الدولار الأمريكي من مستوى 10 جنيهات عام 2016 إلى مستوى 47.45 جنيها خلال 2024، والجنيه الإسترليني من مستوى 13.45 جنيها لـ 60 جنيهًا، واليورو من مستوى 11 جنيهًا إلى 51.74 جنيها.
يقول الخبير الاقتصادي مصطفى عادل، إنه مع بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي الأول عام 2016، كان نصيب كل مواطن من الدين الخارجي 578 دولارًا، ومع بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي الثاني في يونيو 2023، قفز نصيب المصري من الدين الخارجي 150% ليصل 1446 دولاراً.
يضيف عادل، أن توزيع بنود الموازنة العامة بين 2016 و2024 تغيرت بشكل ملحوظ؛ فنسبة الأجور من مصروفات الموازنة، تراجعت من 25% إلى 10.3%، ونسبة الدعم تقلصت من 33% إلى 11.5%، وفوائد الديون ارتفعت من 24% لـ 47%.
حدد مجلس الوزراء سقفًا لدين أجهزة الموازنة العامة للدولة في السنة الجديدة بمبلغ ١٥,١ تريليون جنيه، وبنسبة 88.2٪ من الناتج المحلى، مقارنة بنسبة ٩٦٪ خلال العام المالي 2022/ 2023 مع توقعات، بأن يكون أقل من 90٪ بنهاية يونيو الحالي.
يضرب عادل مثالًا على ارتفاع الأسعار بالوقود، مضيفًا أنه خلال عشر سنوات ارتفع سعر السولار من 110 قروش في يونيو 2014، إلى 10 جنيهات في مارس 2024، كما ارتفع سعر بنزين 80 من 90 قرشًا في يونيو 2014 إلى 11 جنيهًا حاليًا.
متلازمة سعر الصرف وارتفاع الأسعار
ساهم ارتفاع سعر الصرف في ارتفاع مستوى التضخم، فوفق معظم الأدبيات الاقتصادية، فإن أنظمة أسعار الصرف الثابتة هي الأفضل، من حيث قدرتها على تخفيض معدلات التضخم مقارنة بالأنظمة المرنة، التي تم اعتمادها حاليا في ضوء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برامج تمويلية.
وصاحب تحريـر سعر الصرف انخفاضا في قيمة الجنيه المـصـري، مما تـرتب عليه ارتـفـاع في المستوى العام للأسعار في كافة القطاعات الاقتصادية المصرية مـن سلع أساسية وعـقـارات والعديد مـن السلع؛ نتيجة ارتـفـاع أسـعـار استيـراد المواد البتـرولية التي تستورد بـالـدولار الأمـريـكـي، حيث إن كافة القطاعات تـرتبط بقطاع الطاقة، فارتفع بالتالي معدل التضخم السنوي بمصر.
مع بدء تحريك أسعار الصرف، ووضع سعرًا استرشاديًا عند مستوى 13 جنيهاً في أول نوفمبر من العام 2016، تبع ذلك بلوغ التضخم أعلى مستوى في تاريخ مصر، وسجل المعدل مستوى 34.2% في منتصف العام 2017.
ووضع البنك المركزي المصري معدلاً للتضخم المستهدفة خلال الفترة القادمة عند مستوى (7%± 2 نقطة مئوية) في المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2024، ومستوى (5%± 2 نقطة مئوية) في المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2026.
ارتفعت قيمة السلع، التي كان المصريون يشترونها بـ 100 جنيه في عام 2014، إلى نحو 444 جنيهاً في 2024، وفقاً لحسابات «بلومبرج»، التي استندت فيها لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المركزي، ما يعني هذا أن أسعار السلع ارتفعت أكثر من 4.4 مرات خلال 10 سنوات، وأن المصريين فقدوا نحو 77% من قدرتهم الشرائية خلال الفترة نفسها.
هل المشكلة في الصندوق أم التنفيذ؟
حسب الدراسات، فإن برامج صندوق النقد الدولي تفرض إجراءات صارمة على الاقتصاد المصري، ولها تأثير سلبي على بعض المؤشرات الاقتصادية مثل، التضخم ومستوى المعيشة، كما أن سياساته قد تؤدي لتعميق الأزمة الاقتصادية في بعض الدول التي لا تلتزم بالإجراءات الإصلاحية في اقتصادها.
تضيف أن استخدام الدول للقروض في تمويل القطاعات الخدمية غير الإنتاجية من أهم أسباب عدم قدرتها على الاستفادة الكاملة من القروض، فضلاً عن عدم الاستخدام الأمثل لقروض صندوق النقد الدولي، يؤدي للدخول في حلقة مفرغة من الديون.
كما أن نجاح سياسات التقشف التي يفرضها صندوق النقد الدولي المقترضة تتوقف على مدى قابليتها للتنفيذ من الشعب والحكومةـ بما يعني أن القروض يجب استخدامها في عمل التنمية المستدامة؛ بدلا من التركيز على خفض الانفاق العام، مما يتسبب في الركود وزيادة أعبائها.
في 2019، قال صندوق النقد، إن برنامجه مع مصر حقق هدفه الرئيسي المتمثل في تحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي، وهو أحد متطلبات جذب الاستثمارات وزيادة النمو، وخلق فرص العمل بجانب انخفاض مستويات عجز الحساب الجاري، وارتفاع احتياطيات النقد الأجنبي إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق ـ كما تعافى النمو إلى 5.5% في الوقت الحالي، وبدأ مستوى الدين العام في التراجع، وانخفضت معدلات التضخم على نحو مطرد- لتمضي بذلك على المسار الصحيح نحو بلوغ مستوى الرقم الواحد.
وزارة المالية: الإصلاح جنب اقتصاد مصر الأزمات
الأمر ذاته يؤكده الدكتور محمد معيط وزير المالية في حكومة تسيير الأعمال، مشددا على أن الآفاق الاقتصادية لمصر، أصبحت أكثر استقرارًا وتحفيزًا للنمو والتنمية وخلق فرص العمل، مضيفًا أن الوزارة مستمرة في تحسين مستوى معيشة المواطنين، وإقرار المزيد من برامج الحماية للتعامل مع الآثار السلبية للموجة التضخمية خلال الفترات الأخيرة.
بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن متوسط نصيب الفرد من الإنفاق السنوي للأسرة ارتفاع خلال السنوات الأخيرة، ليبلغ 15.29 ألف جنيه في 2019 /2020 مقابل 8.6 آلاف جنيه في 2015 و6 آلاف جنيه في 2012/ 2013، و5 آلاف جنيه في 2010/ 2011.
بحسب بيانات وزارة المالية، فإنه الست سنوات الماضية شهدت تحقيق الانضباط المالي، وتحقيق فائض أولي بمتوسط ١,٣٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ومستهدف أن يصل إلى ٣,٥٪ العام المالي المقبل، مع التزام الوزارة بتنفيذ استراتيجية طموحة لوضع معدلات العجز والدين للناتج المحلى بمسار نزولي مستدام.
تشير بيانات وزارة المالية إلى سعيها لاستهداف توجيه ٥٠٪ من إيرادات برنامج «الطروحات» لخفض مديونية أجهزة الموازنة بشكل مباشر، وأيضًا وضع سقف سنوي لقيمة دين أجهزة الموازنة والهيئات الاقتصادية، بينما يقول معيط، إنه لولا تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل واستمرار وتيرة الإصلاح، ما نجحنا في احتواء تداعيات أزمة «كورونا»، على النحو الذي حظي بإشادة الجميع.
ما الحل؟
الدكتور أحمد جلال، مقرر المحور الاقتصادي في الحوار الوطني، يقول إن التفكير في الإصلاح الاقتصادي يجب أن يكون شاملاً وبشكل مختلف، فمصر تحتاج نقلة وتنمية للسياسات الاقتصادية، وليس المشروعات أو عددها، وتركيبة مؤسسية تتنبأ بالأزمات قبل وقوعها؛ من أجل مواجهتها وإنشاء مجلس استشاري قومي، يصدر بقانون له مهام محددة في خدمة مؤسسة الرئاسة في الجانب الاقتصادي على غرار أمريكا.
أضاف أن المجلس سيكون له دور في تمحيص ما تقدمه الحكومة والتنسيق بين الوزارات المختلفة، والتأكد من أن التوجه في الاقتصاد لصالح الجميع، مضيفًا أن أحد الإشكاليات في الاقتصاد هو “خطأ تطابق العملة” (currency mis match) عبر تدشين مشروعات بالاقتراض بعملات أجنبية، وإنتاجه موجه للسوق المحلية، وبالتالي تحدث مشكلة حين السداد، وهو أمر ينطبق على محطات الكهرباء، والطرق على سبيل المثال.
وطالب بمنظومة سعر صرف أكثر مرونة، أي أنها ليست مرنة تمامًا لدرجة التعويم، وليست ثابتة لدرجة الجماد، عبر “بي بي سي” بربط الجنيه بسلة من عملات أهم الشركاء التجاريين مثل، روسيا وأمريكا والصين وأوروبا ووزنهم النسبي على حسب التبادل التجاري، وتعمل مؤشر متوسط يتحرك كله، ويعلن البنك المركزي مسبقًا للسنة القادمة، أنه سيدافع عن الجنيه في حدود معينة خلال فترة معينة.
يقول عبد النبي عبد المطلب، وكيل وزارة التجارة الأسبق، إن الطريق إلى حل المشكلة الاقتصادية المصرية المزمنة، يبدأ بالاعتراف بوجود المشكلة، وتحديد أسبابها بمنتهى الدقة والتجرد، وتكمن المشكلة الاقتصادية في تشويه مفهوم التنافسية داخل الاقتصاد المصري، فلن يكون هناك صناعة ولا زراعة ولا تشغيل، ولا استثمار في ظل وجود أكثر من قاعدة، تحكم نفس النشاط بنفس الدولة.
تابع: “تخيل مصانع تعمل ولديها التزامات، وفجأة قرارات توقف سلاسل إمداد الخامات ومستلزمات الإنتاج، لعدم وجود تمويل من العملات الصعبة، وفى نفس الوقت يتم منع رجال الصناعة والاستثمار من استخدام أرصدتهم من العملات الصعبة؛ لتلبية احتياجاتهم من الخامات ومستلزمات الانتاج.. هل في مناخ كهذا يستطيع رجال الاستثمار ورجال الصناعة المغامرة بزيادة حجم أنشطتهم واستثماراتهم؟.