قد يظن البعض لأول وهلة، أن إيران تكتسب أهميتها الإقليمية والدولية فقط من ثورتها التي أذهلت العالم 1979م، ثم الدولة الدينية التي أسستها، ثم الطموحات التوسعية التي لا تخفى على أحد في الخمسة وعشرين عاماَ الأخيرة، لكن هذا مجرد ظن، الثورة الإسلامية والدولة الدينية ليست غير تطور عابر، سوف يتجاوزه الشعب الإيراني، الثورة ثم الدولة هي جزء من سياق ظاهرة الإسلام السياسي، التي طافت بالعالم الإسلامي السني عند مطلع الربع الثاني من القرن العشرين، ثم وصلت ذروتها في الإسلام الشيعي في إيران عند مطلع الربع الأخير من القرن ذاته، ثم أعادت انتاج نفسها بعد ذلك بعشر سنوات في السودان، وكانت مزيجاً من الخبرتين المصرية والإيرانية، كلها من تراث القرن العشرين، تراث الإسلام السياسي الذي يفقد قوة الدفع التاريخي ويؤول إلى متاحف الزمن.

إيران مهمة؛ لأنها مكون خالد، غير طارئ وغير عابر، في بنية الحضارة الإنسانية، كانت وما زالت. إيران دخلت مضمار الحضارة مع الصين وكلاهما بعد مصر وبلاد الرافدين، وكلهم قبل اليونان، ثم الرومان، أعطت وما زال عطاؤها ملهماً وموحياً ومقروءاً في كل اللغات وكل الثقافات، كانت إيران وما زالت ركناً ركيناً في بناء الحضارات الشرقية التي سبقت، وعلمت وألهمت الحضارات الغربية، والتي ما زال وهجها القديم حياً لا يخبو. الصين تميزت عن مصر وإيران وتركيا، بأنها لعبت مع الغرب بأدوات الغرب، لعبت مباراة العصر بقوانين العصر، فلا هي انسخلت من جذورها، ولا هي تخلت عن حضارتها، ولا هي التحقت بالغرب مثل، تركيا وإيران ومصر في بعض الفترات، ولا هي تشنجت ولا فقدت توازنها، وزجت بنفسها في صدام مع الغرب، مثلما فعلت حكومات وتيارات في إيران ومصر بالذات. الصين عملت المعجزة: بقيت صينية، بقيت حضارة شرقية، دون صدام حاد مع الحضارة الغربية، وتسعى سعيها لبناء حضارة عالمية، تتكامل كما تتنافس في إطارها الحضارات كافة.

نجاح التجربة الصينية يفسر لك، لماذا أخفقت كثير من البدع المستحدثة في دول ذات موروث حضاري عميق مثل، مصر والعراق وإيران وتركيا، بدع مثل القومية والوطنية والإسلامية، بدع الاحتماء بالهويات، بدع استدعاء الأشكال وليس المضامين، استدعاء التقاليد وليس القيم، استدعاء القبيلة الواحدة في شكل الأمة الواحدة، استعادة الرومانسية الوطنية في الانتصارات القديمة، استدعاء الخلافة الإسلامية- الملكان فؤاد، ثم فاروق في مصر ومعهما الإخوان- منحوها اهتماماً مبالغاً فيه، وعملوا لإحيائها بعد أن ماتت موتة طبيعية جداَ، كذلك استدعاء فكرة الدولة الإسلامية سنية، كانت أم شيعية من الوهابية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في نجد، وقلب الجزيرة العربية، حتى ما لا حصر له من جماعات إسلامية كلها تتبنى فكرة الدولة الإسلامية.

الخطأ الأكبر، أنه تم استدعاء أشكال بلا مضامين وهياكل بلا أرواح ومسميات، بدون القيم التي تعطيها معناها، استدعاء ولاية الفقيه في زمن جعل الولاية للشعب والسيادة للأمة، استدعاء الحكم الإسلامي، رغم أنه- على مدى تاريخ الإسلام كله- كان الثغرة المخجلة في تاريخ الإسلام، كان الحكم الإسلامي- في أغلبه- حكم تغلب دنيوي خال من روح الإسلام وقيمه وأخلاقه، ومشحون بطاقة عنف، عليها يتأسس وعلى روح دموية بها يكتمل، ثم على عنف مضاد يأتيه من داخله أو خارجه؛ فيقع وينهار ويفسح الطريق لحكم جديد، كان من يريد الخلافة ليس عليه إلا أن يخرج في سبيلها وسيفه يقطر دماً، كان السيف والدم هما الحسم الوحيد لمسألة السلطة والدولة في تاريخ الإسلام بلا فرق بين سني وشيعي. لم تكن الخلافة ولا الولاية ولا الدولة ولا الحكم ولا السلطة، هي الوجه المشرف لتاريخ الإسلام، بل كان العلم والدعوة والفقه والتصوف والعبادة وعمل الخيرات وفضائل الدين من عدل وحب ومؤاخاة ومساواة وحرية، وتراحم وتكافؤ وتكافل بين الناس، كانت هي الوجه المشرفة للإسلام، وكانت الروافد التي منها ارتوت حضارته في العمارة والفنون والعلوم والفقه والتشريع والآداب. الإسلام السياسي من الوهابية في الجزيرة إلى الإخوان في مصر إلى الثورة الإسلامية في إيران، وكل التيارات التي قلدتهم واتبعتهم، استدعت من تاريخ الإسلام، ما كان قد مات وفقد معناه ومغزاه، ولو كانت استدعت من الإسلام قيم الحرية والكرامة الإنسانية والعدل والعدالة والمساواة، ووحدة الإنسانية وتكامل الحضارات والثقافات، لو حصل ذلك، لكانت أنجزت أمرين: التقدم بأحوال بلدانها، وتحسين معاش أهلها، ثم إثبات نفسها في سجل الحضارة الإنسانية القائمة بالأخذ منها، ثم العطاء لها والتأثير فيها والتأثر بها. لهذا تلاشت الوهابية، ويتلاشى الإسلام السياسي السني ومثله الإسلام السياسي الشيعي في إيران، فهو قائم – فقط – بالحديد والنار وليس بالحرية والاختيار.

إيران مهمة للحضارة الإنسانية، قبل الإسلام وبعد الإسلام، بالدين وبدون الدين، قبل الثورة وبعد الثورة، قبل حكم الفقهاء وبعد حكم الفقهاء، إيران مهمة، لأنها غذت روافد الحضارة الإنسانية والإسلامية بعطاء حي لا يموت، مثلها في ذلك مثل مصر، مع فارق أن مصر كانت أسبق، وما زالت لم تكشف عن كل أسرار حضارتها، وسوف تظل تدهش الإنسانية لعدة آلاف مقبلة من الأعوام، لكن تمتاز إيران- في عهدها الإسلامي- بعدد من كبار شعراء الإنسانية، لم تقدم مصر ولا العرب، بل ولا غير مصر والعرب أمثالهم، فقط في القرون من السادس، حتى الثامن الهجري، قدمت إيران للعالم عمر الخيام وفريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي وحافظ الشيرازي.

إيران مهمة، ليس لأنها تسعى للسلاح النووي، لكن لأنها كانت وما زالت ذات شعب عبقري ملهم للحضارة الإنسانية.

عبقرية الإنسان في إيران القديمة موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.