بعد أن اكتسح حزب اليمين المتطرف “التجمع الوطني” حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “النهضة”، وحصل على أكثر من ضعف الأصوات التي حصل عليها في انتخابات البرلمان الأوروبي، أعلن على إثرها الرئيس حل البرلمان الفرنسي، الذي يشكل فيه حزبه أغلبية برلمانية، وإجراء انتخابات في ٣٠ يونيو الجاري.

وقد شارك في انتخابات البرلمان الأوروبي حوالي 360 مليون مواطن أوروبي، يعيشون في القارة العجوز وموزعين على 27 بلدا لاختيار 720 عضوا في البرلمان، في مناخ مثقل بأزمات اقتصادية والحرب في أوكرانيا، بجانب وجود تحديات كبيرة تواجه علاقة الاتحاد الأوروبي بكل من الصين وروسيا والولايات المتحدة.

وقد تراجعت قوة تكتل أحزاب اليمين المتحالف مع يسار الوسط، دون أن تفقد أغلبيتها النسبية في البرلمان الأوروبي، خاصة بعد تراجع حزب الرئيس الفرنسي ماكرون من 102 مقعداً إلى 83 مقعداً، كما زادت قوة أحزاب اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي، دون أن تحصل على أغلبية، وفي نفس الوقت تراجعت أحزاب الخضر واليسار الجديد في أكثر من بلد أوروبي، حيث حصلت الأولى على 53 عضوًا مقارنة بـ 72 في البرلمان السابق.

وقد تصاعدت قوة أحزاب اليمين المتطرف في أكثر من بلد أوروبي كبير على رأسها فرنسا، وألمانيا وهولندا والنمسا وإيطاليا، بما يعني أن مستقبل أوروبا وكثير من قراراتها بات متوقفا على رؤية هذه الأحزاب، التي وإن لم تحقق أغلبية، إلا أنها باتت قادرة على أن تعرقل كثير من قرارات الاتحاد عبر كتلتها البرلمانية الكبيرة.

أما في فرنسا، فإن الموضوع أكثر صعوبة؛ لأن احتمالات أن يحكم حزب التجمع الوطني كبيرة، وأن تكون احتمالات فوز زعيمته مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية بعد ثلاث سنوات راجحة.

بالمقابل، فإنه من شبه المستحيل أن يحصل حزب “التجمع الوطني” على أغلبية في البرلمان الفرنسي مساوية، لما حصل عليه في البرلمان الأوروبي، إنما من الوارد أن يحصل على مزيد من المقاعد، دون أن يحصل على الأغلبية المطلقة، وإن فرصة أن يشكل حكومة من أقصى اليمين، تشارك الرئيس الحالي إدارة الدولة، كما حدث مع الرئيس “جاك شيراك” حين “تعايش” مع حكومة اشتراكية واردة.

والسؤال الذي سيطرح، ماذا سيحدث لو حكم أقصى اليمين فرنسا، سواء بشراكة مع رئيس الجمهورية الحالي أو منفردا، إذا فاز مرشحه في انتخابات ٢٠٢٧ الرئاسية، وخاصة فيما يتعلق بقضية العنصرية وخطاب التحريض والكراهية، ضد الأجانب الذي يتهم به هذا التيار؟ وهل لا زال يروج لنفس الخطاب الخشن القديم المعادي للأجانب والعرب، أم أن هناك تحولات حدثت في هذا الخطاب، وجعلته مختلفا عما كان عليه الحال في العقود الماضية؟

المؤكد أن الحزب طور خطابة في اتجاه التأكيد على مفاهيم السيادة الوطنية، والتمسك بالهوية المحلية ورفع شعار ” فرنسا أولا” الذي ترفعه أحزاب أقصى اليمين والاتجاهات الشعبوية في كل مكان، ولم يعد يروج بشكل فج نفس خطاب التحريض  القديم، إنما وضع قضية رفض الهجرة في إطار مسألة الحفاظ على السيادة والهوية الوطنية، ولذا نجد أن الحزب نجح، في أن يُطبِع نفسه مع “التيار الرئيسي” داخل المجتمع الفرنسي، وأن يبدو حزبا طبيعيا تختلف معه قوى وتيارات سياسية أخرى، وليس تيار خارج التوافق العام، مثلما حدث عقب وصول جان ماري لوبان (والد المرشحة الحالية مارين) في جولة الإعادة أمام الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك في 2002، حيث اتجه اليمين واليسار للاصطفاف خلف شيراك في مواجهته، واعتبروا جميعا أن الجمهورية مهددة، لمجرد أن مرشح اليمين المتطرف وصل إلى جولة الإعادة، وفاز شيراك وقتها بنسبة 82%، وحقق انتصارا ساحقا.

يقينا، ستكون هناك تعبئة مضادة لحزب أقصى اليمين في انتخابات نهاية هذا الشهر، ولكنها ستكون بين أحزاب ينظر لها جميعا، أنها ليست خارج التوافق العام، ولا تمثل تهديدا للنظام القائم، وتراجع اتهامها بالعنصرية وبث الكراهية.

ومع ذلك، فإن هناك من القوى والأحزاب السياسية الداعمة لهذا التيار، لا زالت تتبنى مواقف عنصرية فجة، وتنطلق من أفكار إقصائية بحق الأجانب، وتمييزية بحق الفرنسيين من أصول عربية.

إن بعض قادة تيارات اليمين المتطرف يتداولون، فيما بينهم كتاب “الاستبدال الكبير” الذي كتبه الباحث الفرنسي “رونو كامي”، وشكل إطارا مرجعيا لمواقف كثير من قادة اليمين المتطرف، واعتبر فيه المهاجرين المسلمين خطرا على الهوية الأوروبية المسيحية، وأنهم محاربون غزاه، يهدفون إلى جعل حياة السكان الأصليين مستحيلة، وإجبارهم على الفرار و”إخلاء الأرض”، وإن هدفهم الوحيد هو تدمير الشعب الفرنسي، وحضارته واستبدالهما بالإسلام”.

أما إريك زامور، أحد رموز اليمين المتطرف في فرنسا وأبرز الداعمين لمارين لوبان، وحصل في انتخابات الرئاسة السابقة على 7.5% من أصوات الناخبين، فاعتبر أن الإسلام في حد ذاته غير قابل للاندماج مع مبادئ الجمهورية العلمانية في فرنسا، وقال جملته الشهيرة، “إن الإسلام هو الإسلاميون في راحة، والإسلاميون هم الإسلام في الفعل” أي إنه لا يوجد فرق بين جماعات التطرف والإسلام، معتبرا أن المشكلة في الدين الإسلامي، وليس في وجود بعض المتطرفين الذين ينتمون لهذا الدين.

صحيح أن زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان، ميزت بين الإسلام والمسلمين وبين الإسلاميين المتطرفين، إلا أنها سبق وطالبت بمنع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة (وليس المؤسسات الحكومية، كما هو مطبق في فرنسا)، وهو قرار في حال طبق (وأشك في ذلك)، سيجعل فرنسا أول بلد في الكرة الأرضية، تمنع ارتداء الحجاب في الشوارع.

لقد تم قبول اليمين المتطرف في داخل المنظومة السياسية الغربية، وأصبح لونا سياسيا ضمن ألوان أخرى، صحيح أن هذا التيار غلف موقفه الرافض للأجانب في إطار الحفاظ على الهوية والسيادة الوطنية، وخفف كثيرا من لغته العنصرية، ومع ذلك لا زال يحمل رؤية تمييزية بحق الأجانب، ولا يقبل التنوع الثقافي الذي بات واقعا في فرنسا والبلدان الأوروبية، ويرفض الهجرة لأسباب ثقافية، وليس فقط سياسية واقتصادية، وهي أمور ستنعكس حتما على أوضاع فرنسا الداخلية وسياستها الخارجية.