من يكتفي بالنظرة الأولى، ويأخذ الأمور بظواهرها، تبدو له إيران في قمة مجدها، فهي منذ الثورة، وعلى مدى ما يقرب من خمسة عقود، تمتاز عن جوارها العربي بأمرين: فيما يخص الهيمنة الغربية والأمريكية بالتحديد: أولهما، أنها ليست قوة إذعان وغيرها يذعن، وثانيهما، أنها قوة إزعاج وغيرها حتى لا يهمس، آخر من جرب عدم الإذعان وجرب الإزعاج بجدارة، كانت مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر. وفضلاً عن استقلال الإرادة الإيرانية عن الهيمنة الغربية، فإن إيران في الربع قرن الأخير استفادت من أخطاء الغرب في الشرق الأوسط، وتسللت إليه من داخله، وأحاطت به من خارجه؛ لتكون في موضع قوة ظاهرة، لم يحدث من عهود الدولة الصفوية التي ناطحت الدولة العثمانية، وتنازعت معها السيادة على الإقليم رأساً برأس، منذ مطلع القرن السادس عشر، وحتى سقطت الدولة الصفوية في الثلث الأول من القرن الثامن عشر.
إيران- في الظاهر- تبدو متفوقة على جوارها العربي، وخالية من أمراضه وسالمة من عيوبه، لكن الحقيقة هي أن الجميع يواجهون مأزقاً وجودياً واحداً، حيث شعوب فقد الشغف بالحياة من طول ما نال منها القهر والخوف، وحيث حكومات على اختلاف مسمياتها تحكم بالقوة المجردة، مع فارق حكومات لديها ثروات طبيعية، فإلى جانب السيف تلوح بالذهب، وحكومات ليس لديها ثروات طبيعية، فإلى جانب البطش والقمع تخوف مواطنيها من مآلات الفوضى والخراب في إقليم، تكثر فيه الفوضى ويسود الخراب.
المأزق الوجودي الذي يلف الجميع- منذ مطلع القرن الحالي- هو: ماذا بعد؟ ماذا بعد أنظمة حكم جاءت من الجيوش المنظمة؟ وأنظمة جاءت من قبائل كبيرة؟ وأنظمة جاءت من الدين المُسيس؟ وكلها تشترك في أنها أخفقت في تحقيق مطامع شعوبها في حكم، يقوم على العدل وليس الظلم، وعلى العقل وليس الدجل، وعلى المساواة والإنصاف، وليس التمييز والإجحاف، وعلى توقير كرامة الشعوب، وليس ازدراءها واحتقارها وسوقها سوق القطعان. فرغم الفروق بين دول وفرة مالية ودول عسر مالي، ورغم الفروق العرقية بين عرب وفرس وترك وكرد وأمازيغ وأفارقة، ورغم الفروق الدينية والمذهبية والطائفية، رغم ذلكن فإن شعوب الشرق الأوسط يجمعها إحساس مشترك، أنها غير مشمولة بما جاءت به الحضارة الحديثة من ثمرات الحرية والعدالة والكرامة والحصانة، ضد تغول السلطات العامة على حقوق الأفراد والمجتمعات، المواطن- في كل هذه الدول- سليب الإرادة ومغصوب الحقوق ومنزوع المناعة ومحروم الحصانة، يقف عارياً أمام جبروت الدولة التي يسهل عليها تجريده من كل شيء، بما في ذلك ليس فقط حقوقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل وتجريده من الروح التي أودعها الخالق بين ضلوعه، وتسكن بين جنبيه.
حتى يخرج العرب من هذا المأزق سلكوا- في العقدين الأخيرين- ثلاثة سبل غير مسبوقة:
1- الأول ثورات الربيع العربي، وهي ظاهرة مستجدة تماماً، لم يعرفها العرب بهذا العمق، وهذا الاتساع، منذ تأسست الدول العربية المستقلة قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، سقط رؤساء، وهرب رؤساء، وقُتل رؤساء، دراما كثيفة سريعة مؤثرة، لم تحدث من قبل، ولم يتوفر أحد على دراستها، كما ينبغي أن تكون الدراسة، لأول مرة تكون الدولة العربية الحديثة في مثل هذا الوضع، فهي- بما أنها مكنة كبرى للقمع دائما، كانت تتمتع بوجود قائد متوج موقر مهيمن، يقف على رأسها، ثم عصفت رياح الربيع العربي، فإذا القائد إما صريع أو شريد أو سجين، زلزال غير مسبوق ضرب الدولة العربية في أعز ما تملك، وما تمتاز به: مكنة القمع وقائد مكنة القمع.
2 – الثاني إخلاء الشرق الأوسط- وبالذات الإسلام السني- من زخم الإسلام السياسي وتحييده في معارك السلطة، تمت إعاقته بكافة الأشكال بما سلب منه حصاد كفاحه على مدى عقود من الزمن، تقترب من مائة عام، تم شطره بين المنافي والسجون وتحت الأرض. هذا أيضاً تطور لم يحدث من قبل بهذه الكثافة، وهذا العمق وهذا الاتساع، كانت تقع حركة هنا أو حركة هناك تحت اضطهاد مؤقت، ريثما يزول وكانت في لحظة الاضطهاد تجد ملاذات هنا أو هناك. هذه المرة الوضع مختلف: قرار إزالة عليه توافق إقليمي ودولي، وهذا معناه إخلاء الشرق الأوسط من كل الإسلام السياسي، ثم عدم إتاحة ملاذات آمنة له في أي مكان، ويغفل البعض عن حقيقة أن هذا الوضع يشمل تركيا نفسها، هناك ليس بسبب أن تركيا تستضيف بعض الإسلاميين العرب، لكن الحقيقة هي أن قمع تركيا للحركة الإسلامية التركية المتمثلة في جماعة الخدمة بقيادة فتح الله جولان، هو القمع ذاته التي تمارسه الدول العربية ضد الإسلام السياسي العربي.
3 – الثالث وهو الأخطر في تاريخ الإسلام الشرق أوسطي، منذ منتصف القرن الثامن عشر، هو القرار السعودي بتخفيف الجرعة الوهابية إلى أدنى الحدود الممكنة، بقيت، لكن ليست إيديولوجيا للدولة كما كانت في الدولة السعودية الأولى 1727 – 1818 م، ثم الدولة السعودية الثانية 1824 – 1891 م، ثم الدولة السعودية الثالثة من 1902، حتى تمهيد الطريق لأول جيل الأحفاد وتمكينه من المزاولة الفعلية للسلطة الكاملة، عاشت الدولة السعودية الثالثة طوال حكم الملك المؤسس، وجيل الأبناء والوهابية هي عقيدة الدولة وشرعيتها السياسية، لكن الذي حدث مع ولاية عهد الأمير محمد بن سلمان، فهو تحول أقرب ما يكون إلى ثورة من أعلى، مثلما فُرضت الإيديولوجيا الوهابية بقوة الدولة أي بقوة السيف، تم تخفيض رتبتها إلى مستوى الحياد الإيديولوجي والسياسي بقرار من الدولة أي بقوة السيف.
في حالة إيران كانت قوة الدولة، أي قوة السيف، حاضرةً مرتين في أشد محطات التاريخ الإيراني الحديث جذريةً وحدةً: أولها فرض التشيع على الشعب الإيراني بقوة السيف عند مطلع القرن السادس عشر، ومن قبله كانت إيران مركزاً عظيماً للإسلام السني، وكان التشيع فيه أقل بكثير من مراكز التشيع العربي في العراق وسوريا ولبنان والبحرين وشمال شرق جزيرة العرب، مثلاً مدينة تبريز التي كانت أول مدن فارس يفرض الصفويون عليها التشيع قهراً، كان ثلاثة أرباع أهلها مسلمين سنة، وحتى يتم نشر وتعليم وتوطين المذهب الشيعي في إيران، تم استجلاب فقهاء شيعة عرب من لبنان والعراق وغيرها. وثانيها: فرض نظرية ولاية الفقيه وحكم الفقهاء بعد الثورة الإسلامية 1979م، تم فرضها بقوة الثورة، ثم بإرهاب الثورة، ثم بديكتاتورية دينية لا تختلف – في جوهرها – عن شقيقاتها من الديكتاتوريات العربية.
خصوصية المأزق الوجودي في السياسة الإيرانية يكمن من حقيقة أن حكم الثورة الإسلامية من 1979 حتى يومنا هذا 2024 م، ليس مرحلة تأسيسية في تاريخ إيران، لكنه مرحلة تكميلية، فهي جزء مكمل للمشروع البهلوي الذي بدأ قبل مائة عام 1925م. وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.