عندما تغيب القواعد الدستورية في إدارة الدول تأخذ الطبائع الشخصية للرؤساء حيزا كبيرا في صياغة “القواعد البديلة”!
في حقبة “جمال عبدالناصر” كانت أدوات الدولة، لا وسائل العمل السياسي، رافعة التغيير الكبير الذي تبناه.
ألهم مشروعه للتحرر الوطني واستقلال القرار السياسي والعدل الاجتماعي والوحدة العربية قطاعات غالبة في مصر والعالم العربي، لكنه لم يستند على بنية نظام بوسعها الحفاظ على الثورة ومكاسبها.
كان التناقض فادحا بين المشروع والنظام.
بنفس أدوات الدولة جرى الانقضاض على إرثه في حقبة “أنور السادات”.
رغم اختلاف الأزمان وتعاقب الرؤساء استقرت “دولة الرجل الواحد” في معنى السلطة وممارساتها.
إثر ثورة “يناير” (2011) بدا ممكنا التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، دولة مؤسسات وقانون وقواعد دستورية، لكنها أجهضت سريعا بتصور جماعة “الإخوان المسلمين” أن بوسعها “أخونة الدولة” كلها.
كان الصدام محتما وتبعاته امتدت سلبيا إلى الحاضر.
باستثناء “عبد الناصر” و”السادات” غابت أية خبرة سياسية سابقة على كل من صعد لمقعد رئيس الجمهورية.
وهذه مأساة بذاتها.
لم تكن السياسة من شواغل ” حسني مبارك”، والأرجح أن “السادات” فضله على قيادات عسكرية أخرى من الذين لعبوا أدوارًا بارزة في “حرب أكتوبر” أكثر مما لعب هو من أدوار، لأنه الأقل طموحًا والأكثر انضباطًا.
بطبيعته وغريزته كان “مبارك” يدرك أصول اللعبة جيدًا، لا يناقش الرئيس، وينفذ حرفيًا ما يصدر إليه من تعليمات.
ساعدته صفاته وطبائعه في تجاوز مطبات “انتفاضة الخبز” (1977) و”كامب ديفيد” (1978) و”اعتقالات سبتمبر” (1981)، فهو في صف الرئيس دائمًا، قد تكون له وجهات نظر أخري لكنه لم يفصح عنها على أي صورة.
توارى السياسي فيه- دائما- لصالح “الإداري”.
كان “مبارك” رجل تعنيه المعلومات الأمنية قبل أي شيء آخر للتعرف على مكامن الخطر.
خبرته طبعت عصره كله، فهو لا يسمع لغير الأمن، والاعتبارات الأمنية تجب عنده أية اعتبارات أخري.
بعد “حادث المنصة”، الذي أودى بحياة سلفه “السادات”، تأكدت تلك النزعة في تغليب الاعتبارات الأمنية، مستخلصًا من مشاهد النار أن الأمن هو أساس الحكم، وتصرف على هذا الأساس دومًا.
استقرت صفة “الحذر” في طريقة إدارته للشؤون العامة.
الحذر من صفات رجال الأمن المدربين، فالخطر قد يأتي من مأمنه، لكنه- في مجال مدح خصاله- “غير مؤذٍ”، كما كان يقول بعض وزرائه المقربين.
كان مستعدًا لغض الطرف، وحتى التسامح، مع أعتي خصومه إذا لم يكن اختلافه السياسي يمثل تهديدًا مباشرًا لأمن نظامه، غير أنه لم يكن يتردد في ممارسة أشد أنواع القسوة إذا كان هناك مثل هذا التهديد.
التردد الذي تجده في حقول السياسة وملفاتها، لم تكن تجد مثيله، أو رديفه في مسائل الأمن.
كانت الصفات الشخصية، التي ساعدته على الصعود والبقاء في الحكم، جوهر معضلته الكبرى حيث أفضى غلبة التفكير الأمني إلى تغييب السياسة وجمود النظام السياسي وتآكل شرعيته، كأنه نحر متواصل تحت قوائمه.
لم يكن يميل إلى “فكرة التغيير” إذا ما توافرت أسبابها ودواعيها، ويأخذ على “السادات” منهجه في “الصدمات السياسية”.
قرر أن يكون “ساداتيًا” بلا أساليبه، وبلا أدنى استعداد سياسي، أو شبه سياسي، لمراجعة سياساته من عند الجذور والتعرف على الأسباب الجوهرية خارج نطاق الأمن، التي أفضت إلى المنصة.
لم يكن معجبا بالرجل الذي عينه نائبًا للرئيس، لكنه التزم بصميم توجهاته الاستراتيجية والاجتماعية التي أرساها.
كان “السادات” مناورًا سياسيًا فيما كان هو إداريًا متحوطا أبقى على ما يعتقد أنه مستقر مادام يحفظ أمن النظام.
اصطدمت فكرة التغيير- عنده- بـ “ركائز الحماية الاجتماعية”، التي تعبر عنها طبقات جديدة نشأت وانتعشت وتوسعت مع “الانفتاح الاقتصادي”، وكما اصطدمت -أيضاً- بـ”ركائز الحماية الاستراتيجية”، التي تجسدها علاقات خاصة، توصف بأنها غير قابلة للمراجعة مع الولايات المتحدة، شاملة العلاقات مع إسرائيل.
مضى في دعم عناصر الحماية الاجتماعية والاستراتيجية بأكثر مما مضى سلفه، الانفتاح تحول إلى “تغول اقتصادي” نهبت فيه المقدرات المصرية واستشرى الفساد، كما لم يحدث من قبل، والتحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل مضى بعيدًا إلى نهاية الملعب الإقليمي، متجنبًا أي توترات، مهما كانت الأسباب والدواعي والأزمات والحروب!
السياسات نفسها امتدت في الزمن.
كان مستلفتًا قدر التناقض بين سياساته وأقواله في جلسات مغلقة.
لمرات عديدة استمعت إليه مع رؤساء تحرير آخرين، وهو يوجه انتقادات لاذعة لرئاسات أمريكية وإسرائيلية، دون أن ينعكس ذلك على سياساته ومواقفه.
لم يكن مستعدًا لأي صدام محسوب، أو أية مراجعة للسياسات المتبعة وفق المصالح العليا للبلاد حتى لا تكون العلاقات الأمريكية تسليمًا، بما يفرض عليه.
استولت عليه فكرة أن الصدام يؤدي إلى الحرب، وأن مصر ليس بوسعها أن تتحدى الولايات المتحدة.
كانت تلك الفكرة من موروثات العصر الذي سبقه وامتدت لما بعده.
تمكنت منه صورة “رئيس مجلس إدارة مصر” بتعبير بعض مقربيه من باب الولاء له لا انتقاده، مدحه لا ذمه.
غيبت فكرة الرئيس “الإداري” السياسة والإدارة معا، فلا إدارة بلا أفق سياسي يحكمها ولا أمن إذا لم تتوطد قواعد الشرعية بالرضا العام.
التلازم بين صفتي “الإداري” و”الأمني” أكدت عنده مبكرًا وطوال سنوات حكمه عدم التهاون في مسألة المنازعة على السلطة، وأنه يتعين على معاونيه تنفيذ التعليمات كأنهم “سكرتارية” في مكتبه لا شركاء في السلطة يتمتعون بصلاحيات دستورية.
هذه الفكرة عن مفهوم السلطة في مصر كانت من وراء إطاحة المشير “محمد عبد الحليم أبو غزالة” أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
على طول ذلك العقد وصف، بأنه الرجل الثاني القوي في النظام، ولم يكن ذلك وضعا مريحا للرجل الأول، الذي يخوله الدستور صلاحيات شبه مطلقة.
عندما سنحت الفرصة أطاح به، أخذ ضوءً أخضر من واشنطن، استدعاه إلى قصر “الاتحادية”، طالبا عبر سكرتاريته، أن يأتي المشير بملابس مدنية، تركه لفترة طويلة نسبيًا في غرفة انتظار، مر عليه كأنه لم يكن يعرف إنه هنا، “أزيك يا محمد”، ثم فاجأه بقرار تعيينه مساعدًا لرئيس الجمهورية، ثم فاجأه بأن الوزير الجديد هو “يوسف صبري أبو طالب”، التي تجمعه به علاقات قديمة ومتوترة، أو على شيء من الخصومة والنفور.
بعد إطاحة “أبو غزالة” لم يسمح “مبارك” ببروز شخصية أخري تشاركه الحكم والقرار.
عندما بدا أن رئيس الوزراء الدكتور “كمال الجنزوري” يطمح للعب دور الرجل الثاني القوي في بنية النظام، أطيح به بصورة قاسية بدت غير مبررة أمام الرأي العام، الذي فوجئ بحملة تشهير به على صفحات الجرائد لحظة أطاحته.
كان الدافع المباشر لإطاحة الدكتور “الجنزوري” بهذه الطريقة المستغربة تصوره عن نفسه ودوره، فهو رجل ثانٍ قوي، وليس سكرتيرًا تنفيذيًا لرئيس الجمهورية.
عند عودته من الخارج، حيث كان في رحلة عمل التف حوله في صالون ملحق بمكتبه عدد من الوزراء يرحبون به، كما جرت العادة، إلا أنهم فوجئوا به، يطرح عليهم سؤالًا استنكاريًا عن الأسباب التي دعتهم لعدم خروجهم لاستقباله في المطار!
استخدمت الواقعة لحسم الصراعات داخل الحكومة وقتها، تمهيدًا؛ لتصعيد الدكتور “عاطف عبيد” إلى مقعد “الجنزوري”.
سألت الدكتورة “آمال عثمان” وزيرة التأمينات والشؤون الاجتماعية المقربة من أسرة الرئيس عما إذا كان قد حدث تغيير في قواعد البروتوكول.. بما يلزم مجلس الوزراء بالخروج كاملًا لاستقبال رئيسه عند عودته من الخارج؟!
لم يكن مسموحًا من رجل عهد عنه التأني الطويل والمبالغ فيه في إصدار القرارات السياسية أن يتسامح مع أي تهديد محتمل لسلطاته المطلقة داخل نظام الحكم.
كانت تلك القصة بحمولاتها السياسية تعبيرا عن طبيعة نظم الحكم المتعاقبة ومفهومها عن السلطة.
تحتاج مصر إلى قطيعة كاملة مع “حكومات السكرتارية” و”دولة الرجل الواحد”.
هذه الحقيقة، تكاد أن تكون المدخل الوحيد للمستقبل.