أدعوك عزيزي القارئ، أن تنشط ذاكرتك قليلا، وتعيد استحضار تفاصيل أيا من أفلام الخيال العلمي، التي ترسم صورة حالكة وموحشة لمستقبل المدن والعمران، بداية من فيلم ميتروبوليس لفريتز لانج الصادر في عام 1927، مرورا ببليد رنر لريدلي سكوت الصادر عام 1982 إلى آلاف الأفلام من هذا النوع التي صدرت لاحقا.
حاول أن تعصر ذاكرتك؛ لاستحضار كم شجرة أو مشهد لمساحة خضراء، ظهرت خلال الفيلم. على الأرجح أنك لن تتذكر أي ملامح خضراء، وهذا ليس مصادفة، حيث أن الرؤية الديستوبية “المشوهة” لمستقبل المدن ترتبط بمظاهر المباني الأسمنتية الشاهقة، وشبكات الطرق والكباري الرمادية المكتظة بالسيارات، حيث يطغى العمران البائس غير الإنساني على الطبيعة كليا؛ لتصبح المدينة غابة من الأسمنت.
ربما لم يعد هناك حاجة للتذكر أو التخيل، فإن كنت من سكان أحياء القاهرة أو الاسكندرية التي طالتها يد “التطوير” في السنوات القليلة الماضية، يكفي فقط الخروج من المنزل أو النظر من الشباك، للتأمل في الغابات الأسمنتية التي حولك، والتي حلت محل المسطحات الخضراء، والأشجار التي كانت مكانها في وقت ليس ببعيد، وربما قريب جدا.
هذا التحول يرتبط ارتباطا وثيقاً بارتفاع درجات الحرارة في المدن المصرية إلى نسب مروعة وغير مسبوقة في الآونة الأخيرة. فالمعروف والثابت علميا أن إزالة الخضرة والمساحات الخضراء يؤدي لارتفاع الشعور بالاحترار وزيادة الإحساس بحرارة الجو، خاصة في مناخ الصيف الملتهب الذي تعيشه مصر حاليا.
فقد وصلت درجة الحرارة بأسوان إلى 49.6 درجة؛ لتسجل أعلى درجة حرارة عالميا، كما ظهرت قنا أيضا على قوائم المدن الأعلى حرارة في العالم مسجلة 47.4.
وكرد فعل تقدم عدد من النواب بطلبات إحاطة لرئيس الوزراء، وعدد من الوزراء بشأن عمليات قطع الأشجار وتجريف المساحات الخضراء.
قدم النائب عبد المنعم إمام، طلب إحاطة يتعلق بقطع الأشجار المتكرر، الذي يتم بلا تعويض مناسب للتخفيف من نتائجه.
كما طالبت النائبة سميرة الجزار الحكومة بحظر تصدير الفحم ومحاسبة الشركات المسئولة عن تصديره، بالإضافة إلى التحقيق في مصادر الفحم، حيث ان النائبة أثارت شكوكا حول تورط شركات في قطع الأشجار؛ لتحويلها إلى فحم.
لم تكن طلبات الإحاطة تلك الأولى من نوعها المتعلقة بانحسار المساحات الخضراء، فقد تقدمت نفس النائبة قبيل مؤتمر المناخ بطلب إحاطة حول قطع الأشجار.
كما قدمت النائبة ندى ثابت، في 2022 سؤالا بشأن انخفاض نصيب المواطن من المساحات الخضراء،، وغيرها العديد من طلبات الإحاطة التي قدمها نواب آخرون في سنوات مختلفة. تكرار نفس الشكاوى، والمخاوف رغم مرور السنوات، يدل على أن تلك الشكاوى تمثل نوعا من محاربة طواحين الهواء، وأن هناك إرادة راسخة للاستمرار بالتوسع في غابات الأسمنت التي تسلب المواطنين حقوقهم في الترفيه والبيئة والصحة والجمال
نصيب الفرد من المساحات الخضراء.. في الأحلام
توصي منظمة الصحة العالمية، ألا يقل نصيب الفرد من المساحات الخضراء عن 9 أمتار مربع كحد أدنى، وتوصي بـ 50 مترا مربعا كنسبة مثلى.
قد يكون الـ 50 مترا مربعا رقما طموحا لم تصل إليه العديد من المدن بعد، وإن كانت بعض المدن نجحت بتحقيقه بالفعل، بل وتخطيه أيضا، ولكن بالنسبة للوضع المصري الحالي، تحقيق حتى الحد الأدنى يبدو ضربا من ضروب الخيال.
لا يوجد إجماع على رقم دقيق لنصيب الفرد من المساحات الخضراء في مصر، فقد أعلنت وزيرة البيئة العام الماضي، أن 1.2 مترا مربعا، هو نصيب الفرد الحالي، والرقم يعكس التقديرات الرسمية التي تظهر على موقع الهيئة العامة للاستعلامات، بينما قدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في ورقة، أصدرتها سابقا أن نصيب الفرد 17 سنتيمترا فقط.
هناك أيضا دراسة لداليا علي، وبرانكا ديميترييفيتش، منشورة في دورية الهندسة والعلوم التطبيقية، تشير إلى أن نصيب الفرد في المساحات الخضراء تراجع من 1.18 مترا مربعا في 2006، إلى 0.74 مترا مربعا في 2020، و2128280، هو إجمالي ما فقدته مصر من مساحات خضراء بين 2006 و2020، بينهم 910894 مترا مربعا، فقدتهم مصر بين الأعوام 2017 و2020.
غياب الشفافية يجعل التيقن من الرقم الحقيقي مستحيلا، ولكن جميع الأرقام– حتى التقديرات الحكومية الأكثر تفاؤلا– تشير إلى أن نصيب المواطن المصري من المساحات الخضراء منخفض وضئيل بشكل حاد.
كما تعكس الأرقام، كيف ساهم ما أطلق عليه المسئولون “التطوير” في السنوات الماضية- وتضمن تجريف المسطحات الخضراء – فى تراجع نصيب المواطن المصري في المساحات الخضراء المتراجعة بالأساس.
الأصفر يسحق الأخضر
لا يخفى على سكان القاهرة، وزوارها قيام المسئولين بحملات تجريف عنيفة للأشجار، والمساحات الخضراء في مختلف الأحياء.
حي مصر الجديدة يمثل أبرز الأمثلة، حيث جرى استقطاع 10000 متر مربع من حديقة المريلاند التاريخية؛ لبناء نصب وتطوير عدد من الكباري.
ونبهت مبادرة تراث مصر الجديدة، إلى أن 2500 شجرة قطعت بين 2019 و2020، وحسب المبادرة فقد الحي حتى عام 2020، ما يصل إلى 396000 إلى متر مربع من المساحات الخضراء،
كما فقد الحي مساحات أكثر بكثير في السنوات اللاحقة، لكن المبادرة توقفت عن العد. وبجانب مصر الجديدة، اقتلع المسئولون أشجارا بعضها نادر وتاريخي، في أحياء أخرى عديدة مثل المقطم والزمالك والمعادي.
عمليات التجريف أثارت استياء وغضب السكان، ووصلت الشكاوى لمجلس النواب عدة مرات، ومن جهتهم أبدى نواب اعتراضهم على خطط حكومية، تضمنت إزالة مسطحات خضراء، ومنها تحويل حديقة روكسي لمحلات تجارية، وقرار إنشاء محور الجزائر بالمعادي.
ولم تسلم المدن خارج القاهرة من البلدوزر، واعترض عدة نواب من الإسكندرية والغربية والصعيد والدقهلية على إزالة أشجار ومساحات خضراء من محافظاتهم، وتحويل بعض من تلك المناطق لمحلات.
التأثيرات البيئية للأشجار والمساحات الخضراء في الحد من تلوث الهواء، والتخفيف من آثار تغير المناخي معروفة وجلية، ورغم ذلك تقتلع خطط التطوير الأشجار في توقيت حرج، حيث أن مصر في أمس الحاجة إلى كل مساحة خضراء، خاصة في ظل تفشي التلوث بشكل خطير في المدن، وتعرض البلاد لمخاطر تغير المناخ.
وضع بحث لـ Eco experts في 2018 القاهرة على رأس قائمة أكثر المدن تلوثا في العالم، وصنف تقرير لمنظمة الصحة العالمية القاهرة، كثاني أكثر المدن تلوثا بناء على نسب تلوث الهواء بين 2010 و2015.
كما أن IQAir يرتب القاهرة كخامس اكثر الدول تلوثا عالميا، إضافة إلى أن جميع المدن المصرية، خاصة أسوان والبحر الأحمر وجنوب سيناء، تأثرت بشكل ملحوظ من ارتفاع درجات الحرارة الشديد الناتج عن تغير المناخ، والذي أدى بدوره إلى تضرر زراعة محاصيل أساسية مثل القمح والأرز والذرة، ما هدد الأمن الغذائي.
في خدمة الأرباح.. والعاصمة الإدارية
من قد يربح– أو من قد يستفيد ــ من تجريف الأخضر وإمراض رئات المصريين؟
طلب الإحاطة الذي قدمته النائبة مؤخرا حول انخراط شركات الفحم، يطرح تساؤلات جادة بشأن تورط أطراف ما في قطع الأشجار، لكن هذا جزء من سياق أكبر.
العديد من تلك الإزالات تغلفها الحكومة بغطاء التطوير، وكثيرا ما ينطوي هذا التطوير المزعوم على تحويل المساحات الخضراء إلى محال ومطاعم وكافيهات ومؤسسات تجارية، فضلا عن إزالة المساحات الخضراء؛ لتوسعة الطرق الحالية وبناء الطرق والكباري الجديدة والجراجات.
وهذا التطوير يصب بشكل مباشر في اتجاه تحقيق الأرباح السريعة عبر تسليع المساحات الخضراء العامة “التعامل معها باعتبارها سلعة تباع وتشترى”، واستخراج الأموال منها بكل الأشكال.
كما أن التوسع في بناء الطرق والكباري؛ يهدف لتسريع حركة النقل والتجارة لخدمة الاستثمار، وربط العاصمة الإدارية الجديدة مع القاهرة والمدن الحيوية الأخرى.
وهذا النزوع نحو التسليع وتحقيق الأرباح وتسهيل حركة الاستثمار وخدمة العاصمة الإدارية، يأتي على حساب البيئة وصحة المصريين وحياتهم اليومية.
المسئولون عن قطع الأشجار يعدون بزراعة غيرها في مناطق أخرى؛ للتعويض عن الضرر البيئي. وبالفعل هناك مبادرة رئاسية بعنوان 100 مليون شجرة، تهدف لزراعة 13 مليون شجرة، زرع منها حتى الآن 1.4 مليون شجرة.
إضافة إلى مبادرات بيئية أخرى مثل، اتحضر للأخضر، ولكن جميع تلك المخططات، سواء الإزالة أو الاستزراع، يجريان دون أدنى قدر من الشفافية لإعلام المواطنين بحجم الضرر، الذي نتج عن ازالة المساحات الخضراء، وإن كانت جهود التشجير كافية؛ للتعويض، فالمواطنون- وسكان الأحياء المتضررة بشكل خاص- يتم إقصائهم من صناعة قرارات، ترتبط بشكل وثيق بصحتهم ومعيشتهم اليومية، وملكيتهم في الأماكن العامة ومساحاتها الخضراء.
ويمكننا أن نلحظ مفارقات كاشفة بين خطط تطوير المدن القديمة، ومخططات العاصمة الجديدة. فـ 15 مترا مربعا، هو نصيب الفرد من الأماكن الخضراء في العاصمة الإدارية، والتي تضم أطول محور أخضر في العالم، يشتمل على حدائق مركزية وترفيهية ونباتية على مساحة 5 آلاف فدان، إضافة إلى أن 40% من الطرق مخصصة للمشاة والعجل “الدراجات الهوائية”.
بينما يتم حرمان المواطنين في المدن القديمة من مساحاتهم الخضراء، التي اعتادوا على التنزه فيها، والتمتع بجمالها، بالتوازي مع زراعة أشجار ومساحات خضراء شاسعة في مناطق قصية بعيدة، تبعد عن مساحاتهم اليومية، لخدمة مشاريع جديدة وبراقة تراها أعين الكاميرات، أكثر مما ينتفع منها المواطنون.
الضرر ليس بيئيا وصحيا فقط. من حق المصريين التمتع بالمناظر الجمالية للمسطحات الخضراء في أماكن معيشتهم، والاستمتاع باستخدام تلك الحدائق والمنتزهات العامة، بلا قيود مادية.
إحلال المشروعات التجارية محل المساحات الخضراء، يقيم حواجز أمام المصريين، خاصة غير القادرين ماديا الذين يقضون أوقاتهم في الحدائق المجانية؛ للاستمتاع والاستجمام والتنزه.
وما يفاقم هذا هو استمرار طرح الحدائق العامة للاستخدامات التجارية، وتطويرها من قبل شركات خاصة في القاهرة والإسكندرية وغيرها من المحافظات.
فتجريف المساحات الخضراء العامة، وتسليعها يحد من خيارات المصريين في الترفيه، التي أصبحت أقل وأقل في ظل التضخم والأزمة الاقتصادية.
مصر كوبري وكافيه
لم يعد هناك داع لسرد نماذج وقصص، تحول عمران مدن في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا من أبنية صماء وطرق سريعة، تعج بضوضاء بالسيارات إلى مدن صديقة للمشاة والبيئة ذات مساحات خضراء وعامة.
ولم يعد هناك داع أيضا للتشديد، على أن هذا هو الاتجاه الذي يسير إليه العالم اليوم، بعد أن أدرك الجميع الجانب الموحش لعمران غابات الأسمنت، وفظائعه التي أضرت بالبيئة والإنسان.
تحول هذا الطرح إلى نوع من الكليشيه المعتاد، فعلى الأرجح عزيزي القارئ، أنك قرأت عن تلك التحولات في مكان ما هنا أو هناك، أو لربما صادفت إحدى الصور المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي ترثي حال مدننا المصرية مقارنة بتلك المدن الخضراء الإنسانية.
يكفي رؤية سكان الأحياء المصرية، وهم يتحسرون على تشويه بيئتهم العمرانية بتحويلها من مساحات خضراء حيوية، ومجانية إلى كافيهات ومطاعم متطابقة بلا شخصية، تغطيها الكباري الأسمنتية الرمادية.
أو ربما يكفي استحضار الأخبار المؤسفة حول الإصابات بالإجهاد الحراري خلال الأيام الماضية، التي وصلت إلى حد تساقط جثث المصريين في الشوارع.
وبالنظر إلى مخططات العاصمة الإدارية، يبدو أن النظام السياسي ليس بحاجة لتنبيه أو لتحذير، فهو يدرك ويعلم جيدا، أن المستقبل هو للمدن الصديقة للبيئة والمشاة، ورغم ذلك يحرم سكان المدن القديمة- خارج العاصمة الإدارية- من الحق في الجمال والبيئة النظيفة والعدالة في الترفيه والاستمتاع بمدنهم، من خلال إفناء كل ما هو أخضر، وإحلال خراسانات أسمنتية وطرق أسفلتية ومبان ربحية.
وبينما العاصمة الجديدة ‘تتحضر للأخضر’، يعاد قولبة المدن القديمة بتحويلها إلى غابات أسمنتية مصمتة بلا شخصية، وغير إنسانية، وبينما يرتفع نصيب الفرد في المساحات الخضراء في العاصمة الجديدة، يرتفع نصيب المواطن في الأسمنت والمسلح والخرسانة والكافيهات والكباري في المدن القديمة. فالعاصمة الإدارية تتحضر للأخضر ومصر تتحضر للأصفر.