في المقال السابق هنا بعنوان “أمريكا الصهيونية“، رأينا المدى الواسع لانتشار الالتزام العميق بالمشروع الصهيوني بين صفوف النخبة السياسية الأمريكية، وخاصة بين الرؤساء المتعاقبين على البيت الأبيض، منذ الرئيس وودرو ويلسون المعاصر لإصدار وعد بلفور، واليوم نتناول الجذور الأعمق والأكثر جماهيرية، (أو شعبوية) لتأييد الدولة اليهودية في فلسطين بين جميع طبقات ومنظمات المجتمع المدني الأمريكي، بحيث أن أول استطلاع للرأي حول المسألة سنة ١٩٣٥، أظهر أن ٧٦%من عموم الأمريكيين يؤيدون الهجرة اليهودية غير المقيدة إلى فلسطين، كما يؤيدون استيطان اليهود هناك، وذلك مقابل نسبة معارضة، لا تزيد عن ٧%، أما الباقون فكانوا مترددين أو لا رأي لهم٠.

ويفسر ويليام كوانت أستاذ العلوم السياسية الأمريكي، ونائب مستشار الأمن القومي الأسبق هذا التأييد الشعبي الجارف في أمريكا للمشروع الصهيوني؟، بقوله إن الأمريكيين يستطيعون التوافق مع الطابع القومي الإسرائيلي، ذلك الطابع المتمثل في روح الريادة والالتزام بالديمقراطية، وبقيم الحرية والحقوق السياسية، وهو مالا يوجد له نظير في الجانب العربي، حيث أنه لا المثال الخاص بالجماعة الإسلامية، ولا نموذج الحكومات الفردية الساعية إلى التحديث، يمكنهما تحريك قدر كبير من التعاطف لدى الأمريكيين، وعليه فإنه يوجد بلا شك تحيز مسبق في الثقافة الأمريكية لإسرائيل والصهيونية… انتهي كلام كوانت.

والآن إلى أمثلة لهذا التحيز المسبق لإسرائيل على المستوى الجماهيري في الولايات المتحدة، ففي ثلاثينيات القرن الماضي تأسس اتحاد المنظمات الأمريكية المؤيدة لفلسطين اليهودية، وكان ميثاق هذا الاتحاد ينص على أن مهمته هي تشجيع التعاون بين اليهود وغيرهم؛ لترويج وتنفيذ مشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ومن أجل ذلك خاطب الاتحاد ستانلي بلدوين، رئيس وزراء بريطانيا (صاحبة وعد بلفور) في مايو عام ١٩٣٦ (عام الثورة العربية الكبرى في فلسطين)، قائلا إن مشروع إعادة أرض إسرائيل لأبناء إسرائيل هو النجم الساطع في الصراع؛ من أجل عالم أفضل وإنسانية أكمل٠.

وكان العام ١٩٣٢ قد شهد مولد اللجنة الأمريكية/ الفلسطينية، التي كان ميثاقها ينص على أن هدفها هو تنظيم جهود أعضاء اللجنة كأشخاص غير يهود؛ لمساندة هذه القضية المثالية، أي قضية الدولة اليهودية في فلسطين .

وقد انضم إلى هذه المنظمات عدد كبير من علماء اللاهوت وزعماء الكنائس، ثم امتد التأييد الشعبي من الكنائس، ورجال اللاهوت إلى الحركة العمالية، فأعلن اتحاد النقابات العمالية تأييده لوعد بلفور٠

ولا يختلف موقف كبريات الصحف الأمريكية عن هذا السياق من التأييد الكاسح للمشروع الصهيوني، وفي أكثر من دراسة لتحليل مضمون الصحف الأمريكية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، كانت الخلاصة هي الإجماع على تأييد وعد بلفور، فضلا عن أن هذا التأييد يشمل جميع الطبقات الأمريكية.
مما يفسر تغلغل العقيدة الصهيونية. بين علماء اللاهوت والكنائس البروتستانية في أمريكا المنظور الرومانسي للتاريخ اليهودي، لدى الرواد الأوائل للاستيطان في الأرض الأمريكية، وكما تقول الباحثة ريجينا الشريف، فقد كانت مفردات ومفاهيم الديانة اليهودية والتوراة أكثر وضوحا لدى هؤلاء الرواد، إلى درجة تقمص التجربة اليهودية، فقد أصبحت أمريكا عندهم هي كنعان الجديدة، وأصبح الملك جيمس هو فرعون، وأصبحت التوراة مصدرا لأسماء أبنائهم ومدنهم، ومن ذلك أنه حتى قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، كان المبشر الإنجيلي الأمريكي ويليام بلاكستون يقود أول تحرك سياسي؛ من أجل الدولة اليهودية في فلسطين ،فتقدم عام ١٨٩٠ برسالة موقعة من ٤١٣ شخصية عامة بارزة إلى الرئيس بنيامين هاريسون، تتساءل: “لماذا لا نعيد فلسطين لليهود؟ إنها وطنهم حسب التوزيع الإلهي للأمم، وهي ملكهم الذي لايمكن نقله لغيرهم، وكان اليهود فيها يشكلون مركز الحضارة الدينية في العالم“، جدير بالذكر أن بلاكستون هذا كان قد وضع كتابا بعنوان “يسوع قادم “، وفي هذا الكتاب أسس هذا المبشر لعقيدة ارتباط عودة المسيح إلى الأرض بعودة اليهود إلى فلسطين، هذه العقيدة التي تنتشر الآن بقوة، وتعرف باسم الصهيونية المسيحية

بعدها الاستعراض للجذور الاجتماعية والدينية للصهيونية الأمريكية، فليس مفاجئا أن يكون الكونجرس الأمريكي معقلا من معاقل الصهيونية الأمريكية جنبا إلى جنب مع البيت الأبيض، ليس الآن فحسب، ولكن منذ البداية ودائما، ففي عام ١٩٢٢، أصدر الكونجرس بمجلسيه قرارا، ينص على تأييد الولايات المتحدة لمشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وقد وقع الرئيس الأمريكي وقتها ويليام هاردينج، القرار ليصبح ملزما، لكن هذا القرار بالذات يلفت انتباهنا؛ بسبب ديباجته المقدمة من السيناتور. هنري كابوت لودج، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في ذلك الوقت، إذ تقول هذه الديباجة “إنني لم أحتمل قط فكرة وقوع فلسطين والقدس تحت سيطرة الأتراك المحمديين، فهذه وصمة في جبين الحضارة يجب إزالتها “.

هل فهمنا الآن جذور وسياق تصريح الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، بعد هجوم حركة حماس يوم ٧ أكتوبر الماضي على إسرائيل، وذلك حين قال: ” إنه لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها “؟!