بعد هزيمة العثمانيين على أسوار فيينا 1683م، بدأ الشرق الإسلامي- عثماني وصفوي على السواء- يدرك أن موازين القوى تتغير، وأن أوروبا بدأت تغادر ضعفها، بدأت تصد هجمات المسلمين، بدأت صفحة جديدة من تاريخها. انتبه الشرق الإسلامي؛ ليدرك عناصر السبق الأوروبي، مثل الجيوش النظامية الدائمة المدربة والمسلحة، مثل معاهد التعليم العالي المتفوق، مثل التنظيم الاجتماعي الذي يختلف، عما كان سائداً في العصور الوسيطة، مثل نشاط الأفكار في الصحافة والمسرح والرواية والموسيقى والفنون، مثل تطوير أجهزة الحكم والإدارة والدبلوماسية والقضاء والصناعة والتجارة، باختصار أدرك الشرق، أنه مشدود بقوة جذب سلبية إلى الخلف، وفي المقابل فإن أوروبا مدفوعة بقوة جذب إلى الأمام.

لم يكد القرن السابع عشر ينتهي، والقرن الثامن عشر يبدأ، حتى كان العثمانيون في تركيا و الصفويون في إيران يولون وجوههم شطر أوروبا، صارت أوروبا هي مستقر الحضارة الإنسانية، صارت مدن وعواصم فرنسا والنمسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا هي مواطن الحضارة والعلم والتقدم، الحضارة غادرت مواطنها القديمة في ديار الإسلام: المدينة ودمشق والكوفة والبصرة وبغداد وبلخ ونيسابور وتبريز وأصفهان والقاهرة ومراكش وفاس وقرطبة وإشبيلية ومرسية إلى آخره، دار الزمان دورة كاملة، الغرب المتخلف صار يقود ركب التقدم، الشرق بات في موقف عصيب، فلا هو قادر على استعادة المجد القديم، ولا هو قادر على اللحاق السريع بأوروبا، رغم ذلك حاول العثمانيون والصفويون على مدار القرن الثامن عشر، ثم لحقت بهم مصر وتونس في القرن التاسع عشر، وكلها محاولات أخفقت، فلم تعالج أسباب الضعف، ولم توقف الاكتساح الأوروبي للشرق الإسلامي، فبعد قرنين من التحديث المتعثر- الثامن عشر والتاسع عشر- كان عالم الإسلام كله يخضع خضوعاً كاملاً لسيطرة أوروبا عند مطلع القرن العشرين، فسقطت الخلافة العثمانية في تركيا، كما سقطت القاجارية في إيران، وذهبت تركيا إلى تحديث أوروبي متطرف مع الدولة الأتاتوركية، ومثلها فعلت إيران مع الدولة البهلوية، وكلتاهما أخفقت، وانتهت إلى نموذجين للتحديث المعاكس، حكم الفقهاء في إيران، حكم الإسلاميون المحميون من أمريكا في تركيا، وكلاهما امتداد لأكبر نموذج تحديثي معاكس في الشرق الإسلامي، وهو نموذج الإخوان الذي ازدهر في مصر والشام في سنوات الحكم البريطاني في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.

مصر أسست أول نموذج للتحديث المعاكس، مُعاكس بمعنى، أنه ضد منطق العصر، ومعاكس بمعنى، أنه ضد منطق الإسلام ذاته.  ضد منطق العصر، لأنها صرفت الانتباه عن واجبات السباق العالمي الواقعي من أجل التفوق الأدبي والمادي، لصالح إحياء طقوس وأشكال التدين القديم المنسوب لعصور القوة في تاريخ الحضارة الإسلامية، حولت المعركة من واجبات اليوم والغد إلى موروثات الأمس. ثم معاكس من ناحية منطق الإسلام ذاته، لأنها لأول مرة في تاريخ الإسلام تحول واجبات الدعوة الإسلامية من العلماء الذين يتفرغون لهذه المهمة الجليلة؛ ليقوم بها المهنيون من معلمين ومحامين وقضاة وموظفين حكومة وأطباء وصيادلة وبياطرة وهكذا، فالمرشد الأول معلم ابتدائي، ثم أعقبه قاض، ثم أعقبه محام وهكذا، مهنيون لديهم القليل من فقه الدين، بحكم أنهم متخرجون من معاهد التعليم المدني الحديث، ولديهم القليل من الثقافة الحديثة بحكم، أنهم مستريبون فيها ومتشككون في جدارتها، هكذا كانوا في مصر، وهكذا كانوا في تركيا، لذا توقف انتشارهم على الكم، دون الكيف وعلى العدد دون العدة، وعلى النفير دون التأثير، وعلى السطح دون العمق، كل ما فعلته، أنها زادت من تعثر التحديث المتعثر أصلاً، منذ مطلع القرن الثامن عشر، رغم ذلك فإنها كانت ملهمة للثورة الإسلامية في إيران، وما ترتب عليها من تأسيس حكم الفقهاء. حكم الفقهاء وصل بالتحديث المعاكس إلى ذروته، فقريباً من خمسة وأربعين عاماً، لم تفعل أكثر من تحويل إيران إلى وقود مطامح إقليمية سياسية ومذهبية، أضافت للإقليم مصادر توتر، ولم تنجح في أن تكون مصدر إلهام في تحديث ناجح أو إحياء بناء لحضارة إسلامية جديدة، فلم تزل إيران بعد خمسة وأربعين عاماً، من الثورة هي إيران قبلها، لولا فارق أن الحكام صاروا فقهاء، ومن قبل كانوا سلالة بهلوية، لم تعمر أكثر من ثمانين عاماً، وهذا العمر القصير من المرجح، أن يكون مصير إيران الإسلامية، إذا يبدو الأفق أمامها مسدوداً، إلا من ثغرات محدودة، تضعف فيها الدولة الوطنية، مثل ثغرة الحوثيين في صنعاء اليمن الشمالي، ثم ثغرة حزب الله في جنوب لبنان، بينما تبقى الشيعة في السعودية والكويت والبحرين والإمارات تحت مظلة الدولة الوطنية، سواء بالرضا أو بالقبضة الحديدية. النموذج الإسلامي الإيراني- في ذاته- يخلو من القيمة الإضافية، لكنه يستمد جاذبية خاصة من رداءة الحاضر العربي، حيث تسود ديكتاتوريات غير ذات جدارة سياسية أو أخلاقية. وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.