جعل الله فريضة الحج، وجعلها مشروطة بالاستطاعة، وجعل الاستطاعة مطلقة ومُنَكرة، حتى يكون لكل منا قدرته واستطاعته، ولكن الله سبحانه وتعالى لم يجعل من تلك الاستطاعة أمرا لجعل تلك الفريضة مجحفة، أو غير ميسرة، أو بالمعنى الأدق لم يجعل منها سلعة للتكسب، سواء كان ذلك مرتبطاً بالشركات أو بالحكومات، إلا ان ذلك لا يمنع من أن تقنن بعض المكاسب المالية مقابل القيام ببعض الأنشطة المرتبطة بتحقق الفريضة، أو بجعلها ميسرة في مجملها.
كما أنه من الناحية الحقوقية فقد أقرت الاتفاقيات الحقوقية على حق المواطنين في ممارسة شعائرهم الدينية على قدم من المساواة والعدالة، دونما أي تمييز طبقي أو عرقي، وهو الأمر الذي يتجافى بشكل قاطع الدلالة مع ما يحدث في موسم الحج، سواء كان ذلك من الحكومة المصرية أو من الحكومة السعودية، حيث قد تضاعف سعر تأشيرة الحج الرسمي إلى أن وصل إلى مائتين وعشرين ألف جنيه، مصرين هذا بخلاف الأسعار السياحية المبالغ فيها، والتي قد تصل إلى مليون جنيه، وهو ما يسمى حج الطبقات العليا، هذا ما جعل من فرصة الطبقات المتوسطة، تكاد تكون منعدمة في حلمهم في أداء فريضة الحج.
وخلال سنوات قليلة مضت فتحت السلطات السعودية، ما يسمى بتأشيرات الزيارة متعددة المدد، وكان ذلك بغرض الترويج للسياحة السعودية بطرق مختلفة، وهو أمر محمود ولصالح الدولة، إلا أن تلك التأشيرات قد فتحت باباً جانبياً لشركات السياحة المصرية، والتي بالتأكيد تتعاون معها في ذلك شركات سعودية، في أن تجعل من تلك التأشيرات وسيلة أقل تكلفة لأداء فريضة الحج، في ظل الارتفاع السنوي لسعر الحج وفق السلطات الرسمية، وما يصاحب ذلك من ارتفاع أسعار الحج السياحي، أو حج الجمعيات الأهلية.
وخلال العامين الماضيين، أتم الكثير من الحجاج فريضتهم من خلال تأشيرة الزيارة في العديد من البلدان العربية، وعلى الوجه الأخص الحجيج المصري، لكن في هذا العام ارتفع مؤشر الأعداد الوافدة إلى السعودية لأداء فريضة الحج بتأشيرات الزيارة إلى ارقام كبيرة، ربما فاقت العدد الرسمي لوفد الحجيج.
وعلى الرغم من كون هؤلاء الحجاج يحملون تأشيرات دخول رسمية صادرة من الدولة السعودية، مسدد سعرها من جيوب من يحملونها، وعلى الرغم من كون هذه التأشيرات، لم تتضمن أي استثناءات بعدم دخول مدينة بعينها، إلا أن السلطات السعودية قد تعاملت معهم بعنف وقسوة مبالغ فيها، لا تتفق وصحيح الدين، ولا مع القيمة الدينة لبلد الله الحرام، ولأيام الله الحرم، ووصف التحريم يقتضي عدم التعرض للأفراد، بما يخالف شرع الله، أو ما يخل بمنطق التحريم والأمان الذي وصف به المولى سبحانه هذا البلد.
حيث لا يخفى على أحد وفق ما تم تسريبه من مقاطع مصورة عبر العديد من سبل النشر من اختراق خصوصيات، وتعدي على حرمات مواطنين، كان من بينهم النساء، وتم تكسير أبواب، واقتحام منازل بشكل بالغ القسوة، ولا يتوافق مع تقديس الشريعة الإسلامية لحقوق المواطنين، أو لما أقرته من حرمة هذا البلد وأمنه، كما أنه لا يتوافق مع أي اتفاقيات أو مقررات حقوقية.
فلو كانت السلطات السعودية ترغب بالفعل في منع الحج بهذه التأشيرات، فلما أطلقتها من الأصل، وجعلت من البعض منها مدته عاماً كاملاً، وهو ما يعني أن من حق حاملي تلك التأشيرات دخول المملكة خلال فترة الحج، إلا إذا كانت السلطة السعودية ترغب في التكسب من تلك التأشيرات مع تفريغها من مضمونها، وإذا كانت السلطات السعودية بالفعل ترغب في منع الحج لهذه الطائفة، فعليها قصر التأشيرة لمدة ثلاثة أشهر فقط، على أن توقف العمل بها بداية من شهر رمضان، حتى نهاية موسم الحج، بما يضمن عدم تواجدهم داخل الأراضي السعودية بشكل كامل، لكن أن تسمح بتواجدهم، وتتقاضى ثمن تلك التأشيرات، ثم تقوم بالتعدي عليهم بهذه الطريقة التي باتت، لا تخفى على أحد خلال موسم الحج الأخير، فهذا الأمر هو ما يتعارض مع حقوق المواطنين وحرياتهم.
أم عن تزايد عدد الوفيات والإصابات خلال أيام الماسك بداية من يوم عرفة، والذي يشكل الركن الرئيسي لفريضة الحج، ذلك على الرغم من تناول البعض لصدور أمر عفو ملكي لجميع الحجيج، بغض النظر عن مصدر أو صفة ما يحملون من تأشيرات، وهو ما أدى إلى السماح للجميع بالدخول في عرفات، فهذه قصة لا يجب أن تمر بشكل بسيط على مستوى جميع السلطات، وعلى الوجه الأخص السلطة السعودية و المصرية.
بحسب كوني أحد المتواجدين في صعيد عرفة هذا العام، فإن المستشفى الميداني المتواجد أمام مسجد نمرة لم يكن كافيا بأي حال من الأحوال؛ لمواجهة حالات ضربات الشمس، أو حالات للإخفاق الصحي للحجيج، إذ أنه مبنى صغير لا يكاد يتحمل عشرين مريضا، وهو الأمر الذي أدى إلى إغلاق أبوابه من بعد صلاة الظهر أمام الحالات المرضية، كما أن سيارات الإسعاف لم تكن بالشكل الكافي، أو بما يتناسب مع الأعداد المتواجدة بصعيد عرفه، حتى ولو لم يكن قد تم السماح لحاملي تأشيرة الزيارة بالدخول، فلم تكن تلك الإمكانيات الطبية البسيطة كافية لمعالجة الإصابات التي تقع بين الحجيج، وهو ما يوقع السلطات السعودية تحت طائلة المسئولية عن زيادة أعداد الموتى في هذا الموسم بشكل متضاعف عن المواسم السابقة.
أما عن مسئولية السلطات المصرية، فهي تبدأ منذ لحظة زيادة التعريفة الرسمية الصادرة من الحكومة الصرية، وهو ما يخل بالمقدرة المالية لغالبية المواطنين حاليا، كما أن ذلك الغلاء قد أتبعه زيادات متتابعة من شركات السياحة، وهذا ما أدى إلى زيادة أعداد حجاج تأشيرة الزيارة بشكل كبير من المواطنين المصريين، كما أن مسئولية السلطات المصرية تقع كذلك في متابعة وفد الحجيج الرسمي من كافة الجوانب، وعلى الأخص الجانب الصحي، كما أن دورها لا يجب أن يقف عند حد عدم حماية المواطنين المصريين من حاملي تأشيرة الزيارة، إذ أن ذلك هو أحد أهم أدوار الدبلوماسية المصرية، وهذا الإخفاق هو ما أدى إلى أن يكون النصيب الأكبر لحالات الوفاة للوفد المصري الرسمي منه وغير الرسمي.
حتى وإن تم التحقيق بعد لك مع العديد من شركات السياحة؛ لتحميلها مسئولية تواجد هذه الأعداد من حاملي تأشيرة الزيارة، إلا أن ذلك لا يمنع عن المسئولية المباشرة للدولة بداية من لحظة إعلان أسعار الحج الرسمي، حيث يجب أن يتم التوقف عن جعل الحج سلعة بهذا الشكل القاسي، حيث تبدأ سبل المعالجة بداية من تغيير السياسات المتبعة، وهو الأمر الذي أعلنت عنه فعلا السلطات السعودية، في إعلانها فور نهاية موسم الحج عن إلغاء التعامل بتأشيرة الزيارة، كما أكدت السلطات التونسية عن إقالة وزير السياحة التونسي عقب موسم الحج، لكن السلطات المصرية، وبرغم كونها صاحبة النصيب الأكبر في أعداد الموتى لم تعلن سوى عن معاقبة بعض شركات السياحة وتغريمها مالياً، وكأن الأمر يقف عند مخالفات تلك الشركات فقط، أو ما يرمي بالتبعة عليها فقط، وإخلاء مسئولية الحكومة عن تلك الأحداث.
لكن الأصح أن تتم مناقشة الأمر في الغرفتين التشريعيتين (مجلس النواب– مجلس الشيوخ) بحضور أولي المسئولية من الوزراء والمتخصصين في الأمر، حتى تتم معالجة ذلك الأمر بما يضع تيسيراً على الحجيج، ويجعله في متناولهم، بما يمنع عدم توجههم إلى الأبواب الخلفية.