قضية البيئة في مصر من القضايا العالقة والملفات الشائكة، منذ فترة ليست بالقصيرة، إذ على الرغم مما جاء النص عليه في الدستور المصري من الحفاظ على النظام البيئي، وكذلك على الرغم من الاتفاقيات الدولية الحقوقية، التي انضمت إليها مصر، وأيضا برغم من إصدار قانون خاص بالبيئة، ولائحته التنفيذية، ودخوله حيز النفاذ الواقعي منذ فترة ليست بالقصيرة، إلا أنه لم يزل الواقع المصري مخالفاً لكافة هذه المدونات النصية على كافة مستويات البيئة، حيث أصبح التلوث البيئي هو النظام القائم، وباتت الخروقات هي اتباع قواعد القوانين البيئية، فهناك تلوثات على مستوى الهواء، وعلى مستوى المياه، وخلاف ذلك. وكانت تلك المدونات التشريعية فقط قد صنعت؛ لتكون مجرد إطار أو برواز خالٍ من المضمون الحقيقي.
ولو تخيرنا جانباً واحداً فقط من جوانب البيئة أو أحد أهم ملفاتها أو مفرداتها، سيكون طبعاً وفقا ما يعانيه المواطنون من ارتفاع في درجات الحراة، بشكل غير مسبوق، سيكون ذلك الملف هو البيئة الهوائية، وكيف لنا أن نحافظ عليها من التلوثات البيئية، أو المساعدة على ترطيب الجو أو التخفيف من حدة الحرارة، ولا يتأتى ذلك في ظل سعار التلوث من عوادم السيارات وعوادم المصانع، تلك التي تزيد من حدة التلوث، كما أنها تساعد على ارتفاع درجات الحرارة وزيادة مساحة التصحر الجوي، بما يدعم مزيدا من الارتفاع في درجات الحرارة، ومزيدا من نسب الرطوبة، وهذا قد يزيد من نسب الاختناق الهوائي بين المواطنين.
فيأتي الدور الذي يجب أن يكون للدولة بسلطتها التنفيذية؛ دور الفاعل الأساسي فيه، وهو ما يجب أن يبدأ بتفعيل حقيقي لنصوص قانون البيئة، وهو ما يحمل رقم 4 لسنة 1994، بإصدار قانون في شأن البيئة والمعدل بالقانون رقم 9 لسنة 2009، والذي قد وردت به العديد من العقوبات المتراوحة ما بين الغرامة والحبس كنتيجة للأفعال الملوثة للبيئة، والتي من الواجب أن يقوم جهاز شؤون البيئة بمراقبة المحاضر لقياس كم الانبعاثات، ومدى توافقها واختلافها مع قانون البيئة ولائحته التنفيذية، ولكن لا توجد أدنى شفافية في نشر تقارير هذا الجهاز على الرغم من أهميتها، وفي غالب الأحيان، لا تتم مراقبته إلا بناء على تحركات من أهالي أي منطقة منكوبة، كل هذا بخلاف ما تضمنه الدستور المصري الأخير من حرص نظري على البيئة النظيفة في العديد من المواد، هذا بخلاف ما انضمت إليه مصر من اتفاقيات دولية وإقليمية في هذا الشأن، وأيضا ما ورد في قوانين أخرى معنية بذات الأمر مثل، قانون حماية نهر النيل، وقانون المحليات، وقانون النظافة العامة.
لكن أن يكون للدولة ذاتها دور في زيادة نسبة التلوث البيئي، وعدم الحفاظ على ما تبقى في الشارع المصري من متنفس، وذلك الدور السلبي هو ممارسة قطع الأشجار دون أي هوادة، حتى طالت تلك المذابح أشجاراً لها تاريخ في مصر، ونذكر منها على سبيل المثال الأشجار العتيقة التي كانت موجودة على كورنيش العجوزة، والتي امتدت إليها اليد الرسمية بالذبح بدلاً من الحماية، هذا بخلاف ما طال مناطق أخرى كثيرة على مستوى ربوع الجمهورية، حتى ولو تحججت الإدارة المحلية في السلطة التنفيذية، بأن هناك خطة لاستحداث أو استبدال تلك الأشجار بأشجار جديدة، فإن ذلك كان يجب أن يتم بصور جزئية وتبادلية، لا أن نترك الأحياء والشوارع خاوية على عروشها.
ذلك على الرغم مما جاء في قانون البيئة، وتحديداً في المادة الأولى منه، على أن حماية البيئة تتضمن المحافظة على مكونات البيئة والارتقاء بها، ومنع تدهورها أو تلوثها أو الإقلال من حدة التلوث. وتشمل هذه المكونات الهواء والبحار والمياه الداخلية متضمنة نهر النيل والبحيرات والمياه الجوفية، والأراضي والمحميات الطبيعية والموارد الطبيعية الأخرى. كما أن ذات القانون قد عرَّف تلوث الهواء بأنه: كل تغير في خصائص ومواصفات الهواء الطبيعي، يترتب عليه خطر على صحة الإنسان أو البيئة سواء، كان التلوث ناتجاً عن عوامل طبيعية أو نشاط إنساني، بما في ذلك الضوضاء والروائح الكريهة.
فهل لا يدرك القائمون على سياسة قطع الأشجار، وتجريد الطرق مما بها من معالم خضرة، ومن ناحية متناقضة، ألم يطالع أولئك المسئولون، ما جاء في نص المادة 27 من قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994، وفي الباب المتعلق بجهاز شؤون البيئة، من أنه يجب أن تخصص في كل حي وفي كل قرية مساحة، لا تقل عن ألف متر مربع من أراضي الدولة؛ لإقامة مشتل لإنتاج الأشجار على أن تتاح منتجات هذه المشاتل للأفراد والهيئات بسعر التكلفة، وتتولى الجهات الإدارية المختصة التي تتبعها هذه المشاتل إعداد الإرشادات الخاصة بزراعة هذه الأشجار ورعايتها.
ومن عجائب الأمور، أن أطالع على الموقع الرسمي لوزارة البيئة، أنه تعد الأشجار أحد أهم عناصر البيئة الطبيعية، وهى تمثل أحد عناصر الموارد الطبيعية المتجددة التي تقوم بحفظ التوازن البيئي، وبدون الأشجار فإن الحياة البشرية ستصبح غير قابلة للاستدامة، وخير دليل على ذلك ما نادى به العديد من الاتفاقيات، والمؤتمرات الدولية، بالحفاظ على الاشجار من أجل الاجيال القادمة، حيث تساهم الأشجار بشكل كبير في تحسين نوعية الهواء، خاصة في المدن التي ترتفع فيها مستويات التلوث والتخفيف من آثار تغير المناخ، حيث أن زراعة الأشجار تزيد القدرة على عزل انبعاثات الكربون، حيث تمتص الأشجار قدرا كبيرا من ثاني أكسيد الكربون الذي يُنتج من الأنشطة التنموية المختلفة، وإطلاق الأكسجين، بالإضافة لامتصاص بعض المركبات السامة من الهواء.
إن الشجرة المتوسطة، تمتـص يومياً 1.7 كجم من ثانـي أكسـيد الكربـون، وتنتج 120 لتر أكسجين. ويلزم زراعة 7 شجرات لإزالة التأثيرات الملوثة لسيارة واحدة. وإن فدانا من الأشجار يزيل 2.6 طن ثاني أكسيد الكربون من الجو سنويا. كما تساهم الأشجار بشكل كبير في مكافحه ظاهرة التصحر، وتثبيت التربة ومنع زحف الرمال ومصدات للرياح والعواصف الترابية، ومصدر هام لإنتاج الأخشاب، مما يحد من استيراده وتوفير عمله صعبة وزيادة التنوع البيولوجي في المناطق الحضرية.
إن الحفاظ على الأشجار وحمايتها مسئوليتنا جميعا، من أجل الحفاظ على مواردنا الطبيعية، لذا يجب تظافر الجهود بين كافه أفراد المجتمع وإصدار التشريعات والقوانين اللازمة لحماية الأشجار من التعدي عليها بالقطع، والتصدي لذلك مع التصدي للزحف العمراني على الأراضي الزراعية، وإطلاق حملات توعية لكيفية الحفاظ على الأشجار، والتنسيق مع الأجهزة المحلية لصيانه الأشجار وإحلال وتجديد، ما يتلف منها وإجراء تقليم للأشجار بالطرق العلمية الصحيحة على أيدي متخصصين.
فماذا تبقى من المفاهيم المنطقية التي من الممكن أن تريح العقل البشري في ظل هذه التناقضات التي تمارسها وزارة البيئة، وكيف لها أن توافق أو تقف، دون أي رد أمام جعل الشوارع المصرية بكل هذا القبح، وكل هذا التجرد من أي تنوع خضري أو أي مساحة شجرية تزيد من نسب تدفق الهواء.
لا أجد صدى لكل ذلك سوى قول أمير شعراء الرفض أمل دنقل في قصيدته “كلمات سبارتكوس الأخيرة” حين قال:
لكنّني.. أوصيك إن تشأ شنق الجميع
أن ترحم الشّجر
لا تقطع الجذوع كي تنصبها مشانقا
فربّما يأتي الربيع ” والعام عام جوع”
فلن تشم في الفروع.. نكهة الثمر
وربّما يمرّ في بلادنا الصيف الخطر
فتقطع الصحراء. باحثا عن الظلال
فلا ترى سوى الهجير و الرمال و الهجير و الرمال