سؤال يلح في الأفق: إلى متى ستظل بعض رموز المعارضة المصرية موجودين ومقيمين خارج البلاد؟
في النظم السياسية المتمدينة، يتم استيعاب كافة أشكال وتوجهات المعارضة داخل النظام السياسي. بل أن واحدا من المؤشرات الدالة على مقرطة نظام الحكم، هو مدى قدرته على التفاعل مع الآخر السياسي، حيث تستجيب السلطة التنفيذية لمبادرات المعارضة التي تراها السلطة مناسبة وغير متعارضة مع برامجها، ويتم تنظيم انتخابات دورية لإحداث تداول سلمي للسلطة، وبدورها تقوم المعارضة بدور رشيد في الحكم بعيدا عن أي ممارسات للعنف، أو أية دعوات لتقسيم وشرذمة المجتمع على أسس أولية.
ما من شك أن للأحزاب والقوى السياسية هنا أدوات، تستخدمها في كل ذلك، سواء كانت في الحكم أو المعارضة، فالصحافة والإعلام، والبرلمان، والتظاهر، ومؤسسات المجتمع المدني قريبة الانتماء لهذا الحزب أو القوى السياسية أو تلك، وجماهير الأحزاب الضاربة في الشارع كالجامعات وأماكن العمل والعمال كلها أدوات، تستغلها القوى السياسية في الحكم والمعارضة للتحرك والتفاعل السياسي البيني.
غاية القول هنا، أن بقاء أي معارضة تعمل في الخارج هو وضع شاذ، ويشي بوجود دولة غير طبيعية، لا تنتمي بحال للبلدان المتمدينة ذات التاريخ الديمقراطي، ولا غرو بالتذكير دوما، عن أن الحديث هنا هو عن المعارضة السلمية التي تنبذ العنف طريقا للوصول للسلطة، وأن وجود تلك المعارضة بالخارج يذكرنا بالنظم السلطوية العتيدة التي تنكل بالمعارضين، فيفرون إلى خارج البلاد، ومن ثم يظهر شكل النظام السياسي بين النظم القائمة في المعمورة كنظام طارد لأبنائه، لا يمت للنظم المدنية بأية صلة.
في الدستور المصري، توجد المادة 241، وتنص على أن “يلتزم مجلس النواب في أول دور انعقاد بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية، يكفل كشف الحقيقة والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وذلك وفقا للمعايير الدولية”.
تحليل نص المادة يشير إلى أنه: –
1- “تلتزم” الدولة، بمعنى أن موضوع العدالة الانتقالية هو موضوع حتمي، ما ينفي عن أن النص اختياري أو أمر قابل للتأجيل.
2- يرتبط بما سبق، أن هناك وقتا محددا لصدور القانون وهو عام 2016، وهو تاريخ أول دور انعقاد لمجلس النواب بعد نفاذ الدستور. وبالطبع هذا الأمر وما سبقه في البند السابق مباشرة، يفضي لكون هذا الموعد إجباري، وليس تنظيمي بلغة أهل القانون. وكلمة “تنظيمي” هي كلمة يقولها كل شخص قانوني مسيس، يهدف لإرجاء أمر لا يحقق مصلحته.
3- النص السابق يفضي في الأخير للدعوة للمصالحة مع الجميع حتى مع المتهمين بالعنف، بدليل أن المادة ذكرت، واستخدمت أساليب دالة على ذلك مثل، “كشف الحقيقية والمحاسبة” “تعويض الضحايا”.
4- نص المادة 241، لا يشترط ولا ينص على أن المصالحة– لا سيما مع مستخدم العنف- بدون ثمن، ففيها محاسبة، بمعنى إمكانية العقاب المادي والمعنوي، وفيها تعويض المتضررين، والمؤكد أن فيها طلب الصفح والعفو الممكن قبوله أو رفضه.
على أي حال، فإن الغرض والهدف من هذا الموضوع هنا أقل بكثير من قانون العدالة الانتقالية، الذي نكثت السلطة من خلاله بالدستور، كما نكثت في أمور دستورية كثيرة. فالغرض يبدو متواضعا للغاية، وهو عودة قادة المعارضة بالخارج، ممن لم تتلوث أيديهم بالدماء.
لكن السؤال هنا من يصلح أن يقوم بذلك الدور أو تلك المهمة؟ بالطبع يفترض أن المعارضة في الداخل هي المؤهلة للعب هذا الدور، كما أن مجلس النواب باعتباره الأداة الرئيسة للانتقال السلمي للسلطة، هو أيضا من يتصور أن يقود هذا المشهد. وفي جميع الأحوال، قد يبدو الإعلام المرئي لاعبا مهما لتيسير ذلك.
لكن حال المعارضة في الداخل لا يبدو على أرض الواقع ملائم للقيام بتلك المهمة، فغالبية الأحزاب، وربما كلها تنتمي لقوى الموالاة، وهي تعتبر أن تماهي مواقفها مع مواقف السلطة هو دليل على الطاعة، وإثبات الولاء، ناهيك عن أنها تخلط عن قصد، أو دون قصد بين قادة المعارضة في الخارج ورموز جماعة الإخوان المسلمين.
بالمقابل لا يصلح مجلس النواب للقيام بتلك المهمة، فهو لا يختلف كثيرا عن الأحزاب السياسية، بل أن تركيبة العضوية فيه تشي، بأنه سيكون ملكيا أكثر من الملك، خاصة أن ما يحكمه على أرض الواقع هو حالة من الخلل البين في العلاقة مع السلطة التنفيذية، خاصة في ظل النظام الانتخابي الشائه المسمى بالقائمة المطلقة، الذي تتودد وتزدلف غالبية قيادات الأحزاب السياسية للسلطة من خلاله للانضمام لقوائم مستقبل وطن، حزب السلطة من حيث الواقع.
أما الإعلام، فالأرجح في ظل عملية التأميم التي نالت من نزاهته، ببيع ثلة معتبرة من الفضائيات المصرية للشركة المتحدة للإعلام منذ بضعة سنوات، غير مستعد لتيسير تلك المهمة، ما لم يستشعر الإعلاميون المتنفذون في تلك المحطات بضوء أخضر من السلطة لتهيئة المناخ لهذه الخطوة المهمة.
في الأفق، يبدو الحوار الوطني منصة مهمة ومعتبرة للتحرك، لكونه يضم وجوه مقبولة لقيادة هذا المشهد. وهنا يمكن الإشارة إلى أنه جرت محاولة لإطلاق مبادرة لعودة رموز المعارضة من قبل مجلس أمناء الحوار الوطني صيف العام الماضي، لولا أن عضو من الأعضاء من المنتمين لقوى المعارضة بالمجلس، حذر من التسرع في إطلاق دعوة لعودة هؤلاء، دون أن تكون هناك دراسة كافية للموضوع، وتنسيق بين مختلف الفرقاء، حتى لا يتعرض الموضوع برمته لانتكاسة، ومنذئذ توقف الموضوع، ولم يفتح مرة أخرى.
وعلى أية حال، وبغض النظر عن تدخل مجلس أمناء الحوار مرة أخرى أو عدم تدخله، فالأمر يحتاج إلى إقناع القيادة السياسية بالأمر. صحيح أنها كانت لديها قناعة لذلك عام 2014، وهو ما يمكن تلمسه من خلال الحوارات التي أجراها المرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي مع الإعلام عند ترشحه للمرة الأولى، إلا أن تدخل بعض الإعلاميين في الأمر بمعارضة الفكرة- عقب فوزه- نسف مبادرة الصلح.
اليوم الأمر، وإذا ما سلمت النوايا، يحتاج إلى إعداد قائمة بالراغبين في العودة، ممن لم تتلوث يدهم بعنف، مع موافقة على تلك العودة بأجل أو دون أجل، والسماح لهؤلاء بممارسة كافة الأنشطة السياسية التي كفلها الدستور من الداخل، بما فيها حرية الرأي وتشكيل أو الانضمام لأحزاب سياسية، وحرية التنقل والعمل، ورفع الحظر عن المعاملات المالية والبنكية الشخصية.. إلخ.
في الأخير، فإن الدعوة السابقة جد مهمة، لأنها تفتح آفاقا رحبة للتسامح، آفاق تُنسي الضغائن والكراهية والأحقاد، آفاق تستفيد منها البلاد بقدرات ومقدرات أبنائها، آفاق خالية من الغل والتشفي. هنا من المهم ألا ينسى أحد أن هذا المناخ، يجب حتما أن يتواكب مع مناخ مواز لفتح المجال العام في الداخل، إذ أن هذا الذي سيطال المعارضة بالخارج لن يكون ذا معنى وبال، دون أن يقترن بنظير له في الداخل.
كل هذه الأمور من المهم أن تتخذ مأخذ الجد بالنظر إلى مستقبل البلاد. ففي 2030، ستعقد انتخابات رئاسية، سيكون كل المترشحين فيها مرشحين جدد. بعبارة أخرى، ستكون البلاد في أمس الحاجة لدماء جديدة، وروح جديدة، لبناء وطن جديد. وكل هذا لن يتوفر، دون أن يكون هناك مناخ رحب ومجال عام مفتوح على مصراعيه في وطن متسامح ينبذ الكراهية.