يكاد يكون هناك في هذه اللحظة إجماع بين قطاع واسع من المصريين، على أن “الحياة لم تعد تلذ”- كما عبر أحد السائقين الذين أتعامل معهم. يشرح أبو حسام الحياة غير اللذيذة من خلال معاناته مع ارتفاع الأسعار وانقطاع الكهرباء، وتدهور الخدمات العامة من صحة وتعليم، وبرغم أنه يُثني على مشاريع الطرق التي سهلت حركته في أنحاء القاهرة الكبرى، وتنقله بين المحافظات؛ إلا إنه يرى وجوب توقف الإنفاق العام عليها “فلكل شيء نهاية”. هو يحملها بشكل كبير المسئولية عن معاناته وأسرته.
بات السؤال المطروح على مصر الآن هو، كيف نبدأ الإصلاح بجدية؟ الإصلاح الملح أو الضروري، هو ما يجب أن نعتني به جميعا-مجتمعا ودولة- وهو ما يتطلب استبعاد الأصوات المتشنجة في كل ضفة. الاستبعاد، لا يعني بالطبع الإقصاء بعصا السلطة أو القمع، ولكن يجري بزيادة الأصوات العاقلة التي يجمعها الإصلاح؛ وإن تفاوتت وتباينت رؤاها حول دروبه ومسالكه، وأولوياته ومداخله.
هنا ألفت النظر إلى أن أسئلة الإصلاح لم تعد أسئلة العقد الأخير من عمر مبارك (١٩٨١- ٢٠١١)، التي تركزت حول الحريات، وقمع الشرطة والتوريث والتزاوج بين المال والسلطة… إلخ. أسئلة الزمن المعاصر هي الأسئلة التي فرضها العقد الأخير من عمر ما أطلق عليه “الجمهورية الجديدة”، وهي في تقديري، تتعلق بجوهر الوجود السياسي للمجتمع والدولة المصرية، وهو ما يستحق أن نخصص لها مقالا مستقلا.
ملاحظات ست
أولا: الطلب على الإصلاح: هناك اجماع بين قطاع من المصريين على الاستقرار والأمن؛ خوفا من انزلاق الأوضاع إلى حالة، تشبه ما جرى في الفترة من ٢٠١١ إلى ٢٠١٣، أو ما باتت تعانيه بعض دول الإقليم التي انزلقت إلى حروب أهلية. أي اضطرابات اجتماعية في إدراك المصريين، الآن ستكون أشبه بثورات الجياع التي لا يمكن لأحد “لمها”- على حد تعبيرهم.
في الوقت الذي تسيطر على هذه القطاعات هذه المخاوف؛ إلا أن الأسس التي يقوم عليها مفهوم الاستقرار لم تعد واضحة، بعد أن أثبتت السنين العشرة الماضية من عمر النظام، أن الارتكاز إلى عقيدة الاستقرار والأمن القومي التي رفعها النظام لم تحقق العيش الكريم الذي وعد به.
أظن أن اهتزاز وعدم وضوح أسس الاستقرار تدفع لاقتران الإصلاح بالاستقرار؛ فقد باتا وجهين لعملة واحدة. كانت الانتخابات الرئاسية الأخيرة ٢٠٢٤ /٢٠٢٣، آخر فرصة أُهدِرت لحدوث هذا الإصلاح المقترن بالاستقرار. يرى البعض، أنه لا يمكن استرداد جوهر هذه اللحظة إلا من خلال ممارسة مزيد من الضغوط للوصول إليها مرة أخرى.
ثانيا: الطلب على التغيير: هناك قطيعة شرعية بين النظام والكتلة الأكبر من السكان، دون الثلاثين والذي يبلغون أكثر من نصف السكان تقريبا (طبـــقاً لبيانات الســكان عــام 2022، بلغ عدد الشباب في الفئة العمرية (18 ـ 29سنة) 21.6 مليون نسمة، بنسبة 21% من إجمالي السكان، ويعتبر المجتمع المصري فتيا، إذ تشكل الفئة العمرية (أقل من 15 سنة) حوالي ثلث السكان بنسبة 34.2٪.
جذور الغضب متعددة لدى هذه الفئات، وهي تجمع بين المعاناة الذاتية لهم وانخفاض مستوي معيشة أسرهم، مع الغصب المتولد من الإبادة الجماعية في غزة.
أظهرت السوشيال ميديا بعضا من سمات كتلة الغضب هذه، نبرة المعارضة لديها جذرية وأكثر شمولا، وتتسم بنزعة انتقامية شبيهة بتجربة مصر الفتاة في الأربعينيات من القرن الماضي، ولا يوجد تمييز لديها بين الدولة وبين النظام؛ ساعدها على ذلك ممارسة النظام ذاته الذي قضى على الميراث التاريخي للتجربة المصرية التي تشكلت على مدار قرنين من السنين. سمحت هذه الخبرة التاريخية بتمتع بعض مؤسسات الدولة بالشرعية؛ نتيجة استمرارها في أداء وظائفها وأدوارها بغض النظر عمن يشغل قمة النظام.
يلاحظ وجود طلب على السياسة لدى قطاع منها- كما جرى في تجربة المرشح الرئاسي المسجون حاليا أحمد الطنطاوي. أظهرت حملته قدرة على اجتذاب فئات شبابية، لم تمارس السياسة من قبل، كما اجتذبت الحملة أيضا قطاعا من إصلاحيي الشعب المصري الذين أشرنا إليهم عاليه.
ثالثا: غياب البدائل السياسية، فلا النظام يريد بديلا، ويقضي على أية إمكانية لتشكله. كانت الرئاسة ولا تزال في مصر خطا أحمر، لا يجوز الاقتراب منها، ومن يجترأ على ذلك فمصيره السجن (عنان- طنطاوي) أو القبر والسجن معا (مرسي)، أو التغييب من الحياة العامة (شفيق).
أما ما يطلق عليها المعارضة بتنويعاتها كافة، فهي تعاني من التشرذم والاستقطاب، وتفتقد الجرأة والرؤية السياسية، وتخضع أو تستجيب بعض مكوناتها للهندسة القسرية التي يمارسها النظام معها، وتغيب أو تضعف قدرتها على التمثيل لمصالح فئات اجتماعية محددة.
تدخل السلطة في المجال السياسي بالهندسة القسرية أو الطوعية، يطرح معضلة التمثيل في المجتمع المصري: فالدولة غاب عنها التمثيل لشرائح اجتماعية محددة لتغير طبيعة العقد الاجتماعي بها، واحتلتها زمرة محدودة من تحالف الحكم الذي بات ضيقا، ومع غياب الواجهة السياسية للنظام وضعف الأحزاب السياسية والمؤسسات الوسيطة من نقابات ومجتمع مدني، غاب التمثيل لمصالح المجتمع. لم يُنشِئ النظام أية قنوات للتعبير عن المظالم الاجتماعية والمحلية والشخصية، أو على أقل تقدير ليست واضحة وغير معلوم مساراتها.
السؤال الذي نتقدم به بعد هذه النقطة، هو، هل يمكن للمجتمع السياسي المصري من بلورة بديل خلال السنوات الخمس القادمة- التي تبقت من الولاية الثالثة والأخيرة للسيسي- قادر على أن يستجيب لمخاوف الفئة الأولى، وطلبها على الإصلاح وفي نفس الوقت، يستطيع أن يجتذب قطاعا من الفئة الثانية لمشروعه مع استفادته من ضغوطها نحو التغيير الشامل والجذري، أم أن الأحداث ستفاجئ الجميع، كما جرى من قبل في الانتفاضات العربية في موجاتها المتعاقبة، وكما يحدث الآن في كينيا؟
رابعا: الطلب الإقليمي والدولي على أدوار النظام رَهبا أو رَغبا: أما الرهب فهو الخوف من انزلاق الأوضاع في مصر إلى عدم الاستقرار تحت ضغوط الأزمة الاقتصادية وأحوال الإقليم المضطربة- خاصة بعد طوفان الأقصى وما أحدثه، يضاف إليها هواجس الاتحاد الأوروبي من قضايا الهجرة عبر المتوسط، وإن رأى البعض أن المصالح الأهم لبعض دول الاتحاد الأوروبي هو استمرار تدفق الأموال من المصريين لهم عن طريق الديون والتعاقدات.
أدار النظام بمهارة فائقة هذه المخاوف لدى الأطراف الإقليمية والدولية، بما سمح له بتأكيد مقولة إن مصر أكبر من أن تفشل. تثبت التدفقات المالية الهائلة الأخيرة، (بلغت ما يفوق الـ ٥٨ مليار دولار)، أن مصر ليست أكبر من أن تنقذ، لكنها أثقل من أن تعوم.
أما الرَغب، فيتأتى من بقايا أدوار أمنية وسياسية، يمكن أن تساهم بها مصر في جلب الاستقرار للإقليم وتحقيق مصالح بعض الأطراف، مثل دور الوساطة في غزة، أو الدور الأمني في اليوم التالي للحرب فيها، أو أمن البحر الأحمر، وبالطبع ما استقرت عليه مصالح الولايات المتحدة لعقود- أي حرية الملاحة البحرية والجوية وأمن إسرائيل.
أدى امتزاج الرغب بالرهب لدى الأطراف الإقليمية والدولية إلى ثلاثة عناصر متكاملة:
١- مزيد من حضورهم في السياسة الداخلية المصرية- خاصة أن شبكات مصالح هذه الأطراف ممتدة في هياكل الدولة، وتتشابك مع أطراف أخرى معولمة.
٢- تنافس واضح بين شبكات الامتياز هذه التي تمتزج فيها المصالح المالية برؤاها حول الأمن الإقليمي مع تصوراتها حول طبيعة السياسة، والقيم التي يجب أن تحكم الإقليم، مع من له حق قيادة المنطقة.
التشققات بين شبكات الامتياز قد تدفع بالتغيير، أو تؤدي إلى الإصلاح، لكنها حتى الآن ترى في بقاء الحال على ما هو عليه، هو السبيل للحفاظ على مصالحها.
٣- ارتهان النظام لعدم اليقين الذي هو سمة واضحة للعالم من حولنا والإقليم. الحرب الأوكرانية وطوفان الأقصى ومن قبل كورونا مجرد أمثلة، يمكن أن يضاف لها عديد الأمثلة. عدم اليقين الاستراتيجي، يعني مزيدا من التحديات والأزمات التي تحتاج إلى إدارة ديناميكية مبادرة.
الخلاصة: أن مصر كما هي قوة استقرار للإقليم؛ فهي في نفس الوقت مهدد له بحكم انكشافها الداخلي وأزماتها المتعاقبة.
خامسا: أزمات متراكمة بعضها فوق بعض، إذا أخرجت يد الحل منها لا تكاد تراها، لن تكون أزمة الكهرباء هي الأخيرة، فقد سبقتها أزمات العملة والتضخم وسد النهضة.. وستتلوها أزمات، لأنها في النهاية تعبير عن عوامل هيكلية لا يتم التعامل معها، والأخطر أنها باتت أزمات تعمل كالمغناطيس الذي تجذب أزمات أخرى، مثل الديون وتوفير العملة وسياسة الطاقة والعلاقة مع إسرائيل وطبيعة اتخاذ القرار، وتقرير الإنفاق العام في الدولة.. والأخطر أن النظام لم يعد قادرا على أن يرسل إشارات إيجابية بقدرته على التعامل معها، وتدارك تداعياتها الحالة على المصريين.
يفتقد النظام الموارد السياسية التي أهدرها على مدار العقد الماضي؛ للتعامل مع هذه الأزمات، وأصبحت السهام مصوبة نحو قيادته، فهي وحدها تتحمل المسئولية كاملة، عما آلت إليه أوضاع المواطنين والوطن من إنهاك وانكشاف.
وكما قلت مرارا وتكرارا، فإن الدولة وفي قلبها النظام وقيادته والمجتمع، تدفع ثمنا باهظا لغياب وتصحير السياسة.
وهنا نقدم هذا السؤال: هل يمكن وفق منطق الأزمات المتراكمة، أن تنجب الاضطرابات الاجتماعية المتسعة أو المحدودة؟ خاصة أن النظام حتى الآن عاجز، وغير قادر، لو أراد، أن يغير نمط الحكم وتحالفاته الذي قاد به السياسة والاقتصاد للسنوات العشر الماضية.
الخيارات الاقتصادية والسياسية، الجديد منها والقديم نتاج التفاعل بين مجالات ثلاثة: تحالف الحكم الذي في قلبه المؤسسات التي يطلق عليها سيادية، وهيكل الرأسمالية الذي تبرز معه التحالفات المؤسسة على اختيارات اقتصادية محددة جوهرها نيوليبرالي، وشبكات الخارج الداعمة والمساندة للنظام وقيادته أو المعوقة لهما.
لا اتصور تغييرا في هذه المكونات الثلاثة في الولاية الثالثة للرئيس، بما يمنح المصريين خيارات جديدة- كما كتبت سابقا عقب الانتخابات الرئاسية مباشرة.
سادسا: استمرار التداعي الحر لأحوال العباد والبلاد، يمكن أن يستمر حتى ما بعد ٢٠٣٠، سواء اختلف من تبوأ مقعد الرئاسة، أو استمر، وهو أسوأ السيناريوهات، لأنه يعني في نهاية المطاف دولة، تحللت أركانها ومجتمع منهك. وهي حالة من الاضمحلال لم يعد يجدي معها إصلاح ولا تغيير، وإمكانية الوصول فيها للاحتراب المدني ولو بوسائل غير عنيفة وارد.
تصاعدت معدلات الجريمة في المجتمع، وباتت التفاوتات في الفرص والدخول والثروات مستفزة، وتبرزها السوشيال ميديا بجلاء، وانتشرت المخدرات الذي اتسع نطاقها؛ ليشمل فئات لم تكن تتعاطاها من قبل. نعاني من انقسامات اجتماعية حادة وعنيفة، وعدم وجود بنية ثقافية أو مؤسسية للحوار أو التنسيق وإيجاد تسويات معقولة.