أثار مؤتمر القاهرة المتعلق بمحاولة اختراق الأزمة السودانية كثيرا من الجدل على المستويات السودانية، والإقليمية وشكل تحريكا لمياه استمرت ساكنة لفترة طويلة؛ بشأن محاولات وقف إطلاق النار في الحرب السودانية، حيث تبعه مباشرة زيارات لبورتسودان من جانب كل من المملكة السعودية وإثيوبيا، وذلك في وقت ستحافظ القاهرة، فيما يبدو على حركة دبلوماسية نشطة في إطار سعيها الدائم لوقف الحرب السودانية.
في هذا السياق، ربما يجدر بنا أن نرصد، ماذا تحقق في مؤتمر القاهرة على المستويين المصري والسوداني، وكذلك انعكاسات مؤتمر القاهرة على المشهد السوداني محليا وإقليميا.
بداية، لا بد أن نرصد عددا من الملاحظات أولا: أن موقف القاهرة الرسمي قد تحرك نحو تقدير جديد، وهو التركيز على مجهودات وقف إطلاق النار في السودان بأي ثمن، وعبر كل المداخل، وهو ما عبر عنه الرئيس السيسي في لقائه بالقوى السياسية السودانية، بقوله “إن هذه الحرب الغالب والمغلوب فيها خسران”، هذا التقدير الجديد يعني عمليا التعامل مع كل الأطراف العسكرية المنخرطة في الصراع السوداني.
ولا بد أن نرصد، ثانيا: أيضا أن القوى السياسية السودانية التي انحازت إلى خيار وقف الحرب، قد اتسعت وتضخمت، ربما بضغوط جماهيرية وأخلاقية؛ ناتجة عن أهوال الحرب، حيث أن توظيف مسألة ممارسة الدعم السريع لانتهاكات في التحريض للاستمرار في الحرب أو التحريض عليها، قد فقد مصداقيته، وذلك إلى حد حدوث انقسام في الكتلة الديمقراطية السودانية، حيث لم يوقع على البيان الختامي حركتا دارفوريتان، يحاربان إلى جانب الجيش هما: حركة العدل والمساواة، والحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة مني أركو مناوي، بينما تضامن مالك عقار نائب رئيس المجلس السيادي السوداني معهما في عدم التوقيع، والذي نراه جاء مجاملة لهما، ورغبة في وحدة المعسكر الموالي للجيش، وليس موقفا مبدئيا ضد مخرجات مؤتمر القاهرة إلى درجة، أن قال الرجل في المساء لغير الموقعين، هل أنتم نفس الرجال الذين وافقتم في الصباح على البيان؟
ونرصد ثالثا: أن مؤتمر القاهرة قد انعقد فيما يبدو لنا تحت مظلة تفاهم مصري مع دولة الإمارات، ولو نسبي، وذلك بعد حسابات جديدة في أبوظبي، تتجه نحو تقييم التجربة الإمارتية في السودان، من حيث التكاليف التي تبدو باهظة، والتداعيات السلبية على الصورة الإجمالية للدبلوماسية الإمارتية في عدد من مواقع الصراع في الشرق الأوسط.
ورابعا : نرصد أن موقف عدم الموقعين لبيان القاهرة يعكس أمرين: أجندة عرقية متعلقة بدارفور أكثر منها متعلقة بالمشكل القومي السوداني، ومسألة إنهاء الحرب، وهي ذات الأجندة التي ساهمت في إضعاف الوثيقة الدستورية المبلورة عام ٢٠١٩، وبالتالي إضعاف المحددات الدستورية لفترة الانتقال، حيث تم الضغط لبلورة اتفاقية جوبا، وتوقيعها في خريف ٢٠٢٠، وهو ما أنتج ارتباكا في الأجندة الزمنية لتسلم المدنيين للسلطة، وساهم ضمن عوامل أخرى في تدشين انقسامات المدنيين التي ساهمت بدورها في إضعافهم في توازن القوى مع المكون العسكري بشقيه.
أما الأمر الثاني: فهو متعلق فيما يبدو لنا بتقدير، أن الجيش السوداني لم يحسم موقفه من مسألة التفاوض فعليا على الرغم من الخطابات النارية، ضد قوات الدعم السريع في هذه المرحلة، حيث يشارك ممثلون عنه غير عسكريين في معظم الأحيان في فعاليات دولية؛ بشأن مجهودات وقف الحرب في السودان، كما أن حلفاءه من المعسكر الإسلامي لا يبدون على قلب رجل واحد، فهم موزعون بين العواصم من جهة، وبلغت انقساماتهم سبعة، كما علمنا كما أن النواة الصلبة لهم، وهي الحركة الإسلامية السودانية عكس ارتباكها مؤخرا تصريحات السفيرة سناء حمد، أحد أهم كوادرها المميزة.
وأخيرا جاء البيان المفسر لعدم التوقيع على بيان مؤتمر القاهرة من جانب قسم من الكتلة الديمقراطية مثيرا للدهشة، والاستغراب، ذلك أن هناك ممثلين عن الكتلة الديمقراطية، قد شاركوا بالفعل في صياغة البيان الختامي ضمن لجنة الصياغة المشتركة مع تنسيقية تقدم، كما أن الركون إلى مسألة عدم إدانة انتهاكات الدعم السريع في بيان القاهرة كمبرر لرفض التوقيع مردود عليها، بأن أي دولة وسيط في صراع من المفترض، ألا تتورط في إدانة طرف محدد حتى تستطيع إنجاح وساطتها، وخصوصا أن هذا الطرف مدان فعليا في تقارير دولية، بل أن رموزه قد تعرضت لعقوبات دولية، كما أن الأطراف الأخرى قد عرضت صياغة، تدين كافة أنواع الانتهاكات، ولكن تم رفض التوافق على الإدانة العامة.
في الشق المتعلق بالحساب الختامي لمؤتمر القاهرة، نعتقد أنه قد أحدث اختراقا مهما في جهود وقف الحرب السودانية ، بل أن معسكر لا للحرب قد تضخم على نحو ملحوظ ،ذلك أن القاهرة ومنذ مطلع ٢٠٢٤، قد نشطت دبلوماسيا مع الأطراف الداخلية السودانية، حيث وسعت من ماعون الكتلة الديمقراطية؛ لتضم أطرافا أخرى سياسية وأهلية؛ فتبلور ما يعرف بكتلة الميثاق، كما فتحت الباب للتفاعل مع تنسيقية تقدم عبر زيارة منفردة لعبد لله حمدوك، أولا ثم بلورة مؤتمر القاهرة ثانيا، ومن المتوقع طبقا لتقديراتي، أن يفتح حوارا، ربما منفصلا في المرحلة الأولى مع معسكر الإسلاميين؛ بغرض بلورة تفاعل لا يقصي أي طرف سياسي سوداني على مائدة مستديرة، قد يتم النجاح في الوصول إلى محطتها، وهو ما عبر عنه بدر عبد العاطي وزير الخارجية المصري في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر.
على صعيد مواز لم تهمل القاهرة الأبعاد الإقليمية للمشكل السوداني، حيث أشار البيان الختامي لمؤتمر القاهرة إلى إعلان جدة وضرورة تنفيذه، حيث زار مساعد وزير الخارجية السعودي غداة مؤتمر القاهرة بورتسودان، وهو تحرك يملك تفسيرين، الأول أن هناك تنسيقا بين القاهرة والرياض؛ لإحياء منبر جدة تحت مظلة تنسيق إقليمي، أما التفسير الآخر، فربما يكون حساسية سعودية من التقارب المصري الإماراتي في الملف السوداني.
ويضاف إلى الحساب الختامي لمؤتمر القاهرة أمرين: الأول تدشين المؤتمر للجنة تواصل العمل من أجل وقف الحرب السودانية، فيما يعد آلية مستمرة لاستكمال الجهود مع كل الأطراف، وذلك في ضوء حضور مؤتمر القاهرة ممثلين عن المنظمات الدولية والإقليمية، وهو ما يعني ضرورة حث الإدارة الأمريكية على مواصلة الاهتمام بالملف السوداني، ومواصلة الدفع نحو تنسيق المبادرات والمجهودات؛ سعيا نحو حل الأزمة، وليس إدارة الأزمة الذي تمارسه واشنطن حاليا.
أما الأمر الثاني، فهو قبول الدور المصري من كافة الأطراف السودانية، ودعمها في مجهوداتها؛ لوقف الحرب، باعتبارها عاصمة مفتاحية لحل هذه الأزمة، وذلك في ضوء موقفها الواضح في عدم إقصاء أي طرف سوداني في معادلات وقف الحرب السودانية، وكذلك بتسليمها بأدوار أساسية للمدنيين السودانيين في اليوم التالي للحرب.