تجاوز موت لاعب كرة القدم “أحمد رفعت” بخلفياته وحقائقه وعمق ردات فعله حزنا وغضبا، أية اعتبارات اعتيادية في مثل هذه المآسي الإنسانية.

بدا المجتمع المصري، كما لو كان يطل في المرآة على أحواله العامة والخاصة معا.

يومئ اتساع نطاق الغضب على وقائع الموت قهرا، التي تعرض لها اللاعب الشاب، إلى مخاوف شخصية وعامة من التعرض للمصير نفسه.

تناثرت في المجال العام شهادات واتهامات بوقائع فساد داخل المنظومة الرياضية أفضت إلى ضغوط نفسية وصحية أنهت حياته في مقتبل عمره.

يطلق أطباء القلب على مثل هذه الحالات “موت القلب المنكسر”.

إنه ضعف عضلة القلب بالضغط الشديد، والتوتر الزائد والشعور بالقهر.

القلب المنكسر هو العنوان الرئيسي، الذي استدعى التضامن الواسع مع مأساته في كل بيت ألم بها، أو استشعر وطأتها.

“كلنا أحمد رفعت”، كان ذلك شعارا متداولا في مدرجات كرة القدم بتنوع انتماءاتها، أو على شبكات التواصل الاجتماعي.

بأي حساب واعتبار لا يصح تغييب المعنى السياسي.

ما هو سياسي حاضر ومنذر.

إذا لم تستبن كامل الحقائق ويجري الحساب صارما فإن التداعيات سوف تكون وخيمة يأسا من أي عدل، أو إصلاح ممكن.

قد تنشأ لجان تحقيق، لا تصل إلى شيء، وقد توظف المأساة لدواعي تصفية حسابات صغيرة.

تحتاج مصر إلى مقاربات جدية، أن يكون التحقيق جادا ومستقلا، وداخلا في المسكوت عنه.

بمقاربة ما تشبه قضية “أحمد رفعت”، من بعض الجوانب والزوايا.. الرموز والدلالات، أجواء مسرحية “موت بائع متجول” للكاتب الأمريكي “آرثر ميلر”، التي كتبها عام (1949)، وذاعت وانتشرت بأكثر، مما توقع هو نفسه.

كانت مأساته التي أفضت إلى موته عامة بقدر ما هي خاصة، انهارت عوالمه بأثر الكساد الكبير، الذي ضرب المجتمع الأمريكي، ونال من الطبقة الوسطى بفداحة ثلاثينيات القرن الماضي.

بدت المسرحية أقرب إلى “محاكمة للنظام الرأسمالي”، قبل أن تكون موضوعا لأزمات عائلية بأثر تراكم الديون، والعجز عن موجهة متطلبات الحياة اليومية.

تتبدى في وقائع “موت لاعب كرة قدم” محاكمة من نوع آخر للمنظومة الرياضية، والفساد الضارب فيها، دون أن تتوقف عندها.

كل شيء يخضع للمحاكمة أمام الرأي العام.

لم يكن “أحمد رفعت” أول ضحايا الموت قهرا، ولن يكون آخرهم.

تحتاج مصر أن تستعيد ذاكرتها القريبة حتى تستبين العواقب والتداعيات، التي ربما تكون قد نسيت

في عام (2003)، أفضى ظلم فادح، تعرض له الشاب النابه “عبد الحميد شتا”، إلى انتحاره بمشنقة.

لم يشفع له علمه وتفوقه في الالتحاق بالسلك الدبلوماسي التجاري.

أزيح اسمه من كشوف المقبولين بعبارة قاتلة: “غير لائق اجتماعيا”.

بدت القصة كلها أقرب إلى أعمال الخيانة، خيانة الأصل الاجتماعي وحقوق المواطنة والعدل الاجتماعي، والحق في الترقي وفق معايير الكفاءة وحدها.

ثم جاء انتحار آخر في أكتوبر من نفس العام لمواطن اسمه “إبراهيم الدسوقي عبد الدايم”؛ لأنه لم يستطع أن يدبر بعض مستلزمات دخول أطفاله المدارس مع مطلع عام دراسي جديد كاشفا مدى الغربة الاجتماعية.

في نفس العام، وصل إهدار كرامة المواطنين مداه بواقعة دالة ثالثة، حين أودع طالب بالجامعة الأمريكية، بمستشفى الأمراض العقلية، لولا تدخل الدكتور “فتحي سرور” رئيس مجلس الشعب للإفراج عنه.

كانت قواه العقلية سليمة بأكثر، مما تحتمله أحوال حقوق المواطنة في مصر– فالذي استدعى إدخاله مستشفى الأمراض العقلية، إنه صدق فعلا أنه مواطن، وأن من حقه أن “يركن” سيارته الخاصة في شارع، يسكنه رئيس مجلس الشعب، فالشارع ملك الدولة– كما قال– وليس ملك الدكتور “سرور”.

اعتبرت تلك الكلمات هذيانا.

في توقيت سابق صدمت سيارة دبلوماسية مسرعة في شارع القصر العيني المزدحم طبيبا شابا أثناء توجهه لدار الحكمة لحلف اليمين القانونية، التي تخوله ممارسة المهنة.

لم تتوقف السيارة المسرعة لمساعدته، فيما بدا أن إصاباته جسيمة، ودلفت إلى داخل السفارة الأمريكية.

كان قائد تلك السيارة الملحق العسكري الأمريكي “ستيفن جوزيف مولينسكي”.

جرى التكتم على الواقعة، لولا تسرب المعلومات الأساسية عنها ونصوص المحاضر التي كتبها ضابط شرطة مرور، كان يؤدي عمله في المكان، دون أن يكون ممكنا ملاحقة السيارة داخل السفارة الأمريكية.

نشرت جريدة “العربي” صور الضحية الجريحة على صفحتها الأولى، ووجهت الاتهام إلى الملحق العسكري الأمريكي موثقا.

سألت السفارة الأمريكية: إذا كان ممكنا أن يزورها قنصلها العام؛ للبحث فيما يمكن أن تفعله؟

اعتذرت عن استقباله في مقر الجريدة، التي كنت أرأس تحريرها.

لم يكن ممكنا ضمان سلامته، أو حسن استقباله، كما تقضي الأصول.

أرسل بالنيابة مبعوثا إعلاميا مصري الجنسية.

طلبت اعتذارا رسميا مكتوبا من السفارة الأمريكية بالقاهرة عن السلوك الذي اتبعه الملحق العسكري، والتعهد بعلاج الطبيب الشاب على نفقة الولايات المتحدة في إحدى مستشفياتها الكبرى.

تأهبت السفارة فعلا للاستجابة، لكنها تراجعت في اللحظات الأخيرة، عندما لاحظت تهاونا من السلطات في مصر.

عندما بدأت أتلو النقاط، التي جرى الاتفاق بشأنها في بيان الاعتذار، على مسئول أمني كبير، اتصل مستوضحا ما يجري، انفجر ضاحكا: “هل تتصور أن هذا ممكن يا أستاذ؟!”.

هكذا كانت النظرة الدونية مستحكمة في بنية القرار عند أدنى أزمة حقيقية، أو متخيلة مع الولايات المتحدة.

جرت الواقعة في إبريل (2002) ومحاضرها مسجلة في قسم قصر النيل.

بدا ذلك تعبيرا عن نوع من الزواج السياسي بين تراجعين خطيرين- حقوق المواطن، والوزن السياسي للبلد.

وكان حادث مقتل الشاب السكندري “خالد سعيد” في (6) يونيو (2010) تلخيصا آخر لقدر الغضب المكتوم في المجتمع المصري.

اكسبته الطريقة التي قتل بها من شرطيين، ومحاولة تلفيق تهمة ابتلاعه لفافة، تحتوي على مواد مخدرة؛ تفسيرا لجريمة القتل، رمزية تجاوزت شخصه إلى حقوق المواطنة، رأى كل شاب نفسه في “خالد سعيد”، وكانت صفحة “كلنا خالد سعيد” أحد محركات ثورة “يناير”.

بالإرث السياسي الكامن جرى استدعاء الشعار نفسه باسم جديد: “كلنا أحمد رفعت”.

إذا لم ينظر البلد في تفاعلاته وضرورات إصلاح منظوماته ومؤسساته العامة، فإنه لن يمكن تجنب انفجارات الغضب.