إذا تحركت الشعوب في النظم الديمقراطية، فأنها تنجح مرشح وتسقط آخر أو تقف في وجه مشروع أو تيار، تعتبره يمثل خطرا على مجتمعها عبر التصويت الكثيف في صندوق الانتخابات، أما في النظم الاستبدادية فعادة، ما تضطر الشعوب للتحرك إما بثورات أو انتفاضات شعبية؛ من أجل إحداث التغيير وانتزاع حقوقها.
وبما أن فرنسا بلد ديمقراطي، فأن تحرك قطاع كبير من الشعب الفرنسي؛ لمواجهة خطر وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، كان مذهلا وترجم في معدلات تصويت غير مسبوقة وتعبئة انتخابية وسياسية واسعة، نجحت في وقف تقدم اليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية التي جرت الأحد الماضي في فرنسا.
وكان حزب أقصى اليمين قد جاء في المقدمة في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية، قبل أن يتراجع إلي المرتبة الثالثة في الجولة الثانية، وجاء تحالف اليسار في المرتبة الأولى ممثلا في الجبهة الشعبية الجديدة التي حصلت على ١٨٢ مقعدا، ثم جاء التحالف المؤيد للرئيس ماكرون (معا) في المرتبة الثانية وحصل على ١٦٨ مقعدا (بدلا من ٢٤٦ في انتخابات ٢٠٢٢) وجاء اليمين المتطرف في المرتبة الثالثة، وحصل على ١٤٣ مقعدا، بعد أن كانت مؤشرات الجولة الأولي تقول، إنه سيأتي في المقدمة، وربما يشكل الحكومة، وأخيرا جاء في المرتبة الرابعة يمين الوسط الديجولي (حزب الجمهوريين) الذي حصل على ٦٠ مقعدا.
وقد بلغت نسبة التصويت في الجولة الثانية من هذه الانتخابات حوالي ٦٨٪، وهي نسبة كبيرة واستثنائية في تاريخ الانتخابات البرلمانية الفرنسية، وهو أمر لم يكن ليحدث، لولا التعبئة السياسية والانتخابية التي حدثت في مواجهه اليمين المتطرف، وأخذت بعين الاعتبار بعدين أساسيين:
الأولى تعبئة اليسار، وهي التي كانت أكثر قوة وتأثيرا؛ لأنها لم تكتف بدفع الناس للمشاركة في الانتخابات، إنما قامت بالتظاهر في كل المدن الفرنسية في مواجهة اليمين المتطرف، وقامت بحملة انتخابية “سلبية” في مواجهة مرشحيه، بمعنى أنه لم يكتف فقط بتقديم برنامجه المتناقض مع برنامج اليمين المتطرف، إنما قام بشرح المخاطر الكبرى التي ستتعرض لها البلاد في حال وصل اليمين المتطرف للحكم.
أما الثاني فهو يتعلق بهذا التنسيق الكبير الذي حدث بين مختلف القوي السياسية أثناء العملية الانتخابية، وخاصة في جولة الإعادة.
فالمعروف أن قانون الانتخابات في فرنسا يجعل الإعادة بين كل من حصل على ١٢.٥٪ من أصوات الناخبين، ولم يصل إلى ٥٠٪+،١ بما يعني أن الإعادة يمكن أن تكون بين ٤ أو ٥ مرشحين.
وهنا توافق تحالف اليسار في الجبهة الشعبية مع تحالف اليمين المؤيد للرئيس ماكرون على إعطاء فرصة الإعادة للمرشح الذي حصل على أعلى الأصوات، وسحب باقي المرشحين، مما عظم من فرص فوز مرشح واحد في مواجهة مرشح اليمين المتطرف، وهو ما حدث بالنسبة لحوالي ١٠٠ مقعد، خسرهم أقصي اليمين في جولة الإعادة بفضل هذه التعبئة وهذا التنسيق.
والمؤكد، أن الكتل الثلاثة الرئيسية لم تحصل على أغلبية مطلقة، بما يعني أنها ستكون مطالبة بعمل تحالفات فيما بينها؛ لكي تكون قادرة على تشكيل الحكومة الجديدة، وقد يكون السيناريو الأول تشكيل حكومة يسارية، تنال دعم التحالف المؤيد للرئيس ماكرون أو بعض أطرافه، وهو خيار صعب، ولكنه غير مستحيل؛ نظرا لوجود خلافات كثيرة داخل تحالف اليسار، خاصة إذا نجح ماكرون في تعميق الخلافات داخل هذا التحالف، واستقطب يسار الوسط ممثلا في الحزب الاشتراكي المقبول من المؤيدين لماكرون، وفصلة عن الحزب الأكبر في تحالف اليسار، وهو “فرنسا الأبية” المرفوض من أنصار ماكرون، ومن يمين الوسط واليمين المتطرف على السواء.
أما السيناريو الثاني، فسيكون في نجاح الرئيس في تشكيل حكومة مقربة منه، بعد أن ينجح في الحصول على دعم يمين الوسط الديجولي، وهي سيناريو وارد الحدوث، ولكن يصعبه وجود خلافات سياسية، وتنافس شخصي وتنظيمي بين حزب يمين الوسط “الجمهوريين” وحزب ماكرون النهضة.
نتيجة الانتخابات الفرنسية تقول، إنه إذا تحركت الشعوب فلا يمكن كسر إرادتها وخياراتها، وأن تحالف جميع القوى والأحزاب السياسية رغم خلافاتها وعيوبها في مواجهه التطرف، ونزول المواطنين بكثافة في الجولة الثانية للتصويت أولا لليسار، ثم يمين الوسط حين تيقنوا، أن الخطر صار محدقا “فدقت ساعة العمل”؛ لإسقاط مرشحي اليمين المتطرف، وهو ما أعطي رسائل ملهمة لكل شعوب العالم.
لقد قامت الأحزاب بعمل سياسي وانتخابي مهم بالتخلي عن حسابتها الضيقة، ومكاسبها الصغيرة لصالح هدف أكبر، يتمثل في إيقاف خطر أقصى اليمين، ووجدنا عشرات المرشحين، ينسحبون من الانتخابات لدعم مرشح يميني، أو يساري آخر فرصة أكبر في هزيمة مرشح اليمين المتطرف.
لقد تراجع خطر اليمين المتطرف خطوة وليس خطوات، وستبقى المشكلة في مشروعه، وخطابه الذي استدعي كثير من المفردات العنصرية، وحرض ضد المهاجرين، وخاصة العرب، ونسي أو تناسى أن من يعتبرهم مهاجرين، صار أغلبهم مواطنون يحملون الجنسية الفرنسية، ولهم حق التصويت، ولذا لم يكن غريبا أن يكون تصويت معظمهم لصالح تحالف اليسار، حتى لو كان بعضهم اعتاد في فترات سابقة، أن يصوت ليمين الوسط.
يقينا معركة أوروبا والعالم والإنسانية مع اليمين المتطرف، والأفكار العنصرية، لم تنته، وستأخذ منحنيات كثيرة، وسيكون فيها انتصارات وانكسارات، ولكن بالقطع لا بد أن تكون هناك ثقة في إرادة الشعوب الحية، في أنها ستختار في النهاية الخيارات الصحيحة، وتدافع عن مبادئ العدل والمساواة.