خلال أيام قليلة، سوف يتم فض الدور التشريعي الأخير لمجلس النواب بهذا التشكيل، ثم تعود الدورة الانتخابية، من أجل أن ينعم المواطنون ببعض أشكال الديمقراطية، والتي يرونها خلال أيام الانتخابات، وأهمها رؤية السادة المرشحين رؤى العين ومصافحتهم، ونعمة الجلوس معهم، بعد فاصل من الغياب دام لمدة خمس سنوات، كانت هي العمر الدستوري لانعقاد مجلس النواب، فهل قدم أعضاء مجلس النواب خلال هذا الأمد، ما يؤهلهم للدخول في المعترك الانتخابي المقبل؟ أم سيطل علينا مرشحون جدد، بطرق مستحدثة يتحصلون بها على أصوات الناخبين، ومن ثم مقاعد مجلس النواب، وتعيد الأيام دورتها.
ويهمني في هذا المقام، أن أناقش معكم الدور الذي قام به مجلس النواب في هذه النسخة الأخيرة، وبسؤال أكثر جدية وتقدما، فهل كان المجلس منحازاً إلى جانب الناخبين، وممثلاً بالفعل عن مصالحهم، ومعبراً عن احتياجاتهم، سواء على المستوى التشريعي أو على المستوى الرقابي؟ أم أن النواب قد انحازوا إلى جانب السلطة التنفيذية ومسايرتها، في ما تتخذه من تصرفات، وذلك ما يجعل هناك خللاً واضحاً في بنيان الدولة الدستورية، أو دولة القانون.
ولما كانت دولة القانون يجب أن تتسم بجملة مبادئ تُجسد الحقوق والحريات الإنسانية في الدولة على أساس المواطنة، وهذه الحقوق لا تتحقق بمجرد النص عليها في دستور الدولة وفي قوانينها، ولا تتحقق بمصادقة الدولة على اتفاقيات ومواثيق دولية بشأن تلك الحقوق والحريات، بل في نظام حكم يعترف، في إطار قانوني وتطبيقي، بحق المواطنين، بأنهم أصحاب ومصدر السلطة الحقيقية. وتصبح الدولة الديمقراطية مرادفة لدولة القانون في سياق نظام سياسي، يقوم على مفهوم المواطنة، هذا التنظيم القانوني والسياسي هو الدولة الديمقراطية- دولة القانون- التي تعترف بخضوع سلطة الحكم للقانون، كحال خضوع المحكومين له، حيث تشكل حقوق وحريات المواطنين في هذا القانون، قيوداً على الدولة.
ومن أجل أن يقوم نظام الحكم هذا من خلال قواعده ومؤسساته بعمله على وجه سليم، يتطلب ذلك ضمانات تتلخص في المبادئ الآتية: سيادة القانون.. الفصل بين السلطتين المدنية والعسكرية.. الفصل بين السلطات.. استقلال السلطة القضائية.. تقرير الرقابة القضائية على دستورية القوانين.. تقرير الرقابة القضائية على تصرفات الإدارة وقراراتها. من هنا، فإن مفهوم دولة القانون، يتجسد في هذه المبادئ، تتقدمها سيادة القانون وخضوع سلطة الحكم للقانون كمثل خضوع المحكومين له. وما يقيد سلطة الحكم دستور يضع القواعد الأساسية لنظام الحكم في الدولة، ويقرر حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم. وبهذا يتحقق للأفراد مركز قانوني في مواجهة سلطة الحكم، يكون ضماناً لهم في حرياتهم وحقوقهم. والقانون الذي تكون له السيادة في دولة القانون، يجب أن يكون صادراً عن مجلس منتخب من الشعب، ولا يكون مخالفاً للدستور أو منطوياً على انحراف في استعمال السلطة التشريعية. وإذا لم يؤخذ بهذا المفهوم القانوني، عندئذ ينتفي معنى ومضمون دولة القانون.
وبعد هذا العرض النظري، فأي الجانبين كان يمثل مجلس النواب؟ وماذا أنتج من مقتضيات وظيفته وصلاحيته الدستورية من تشريع أو رقابة، فعلى المستوى الأول، وبحسبه الأهم، وهو المستوى التشريعي، وهو ما يمثل الوظيفة الرئيسية لعمل مجلس النواب، فقد أنتج مجلس النواب خلال سنوات عمره العديد من التشريعات على كافة المستويات والأصعدة المتعلقة بحياة المصريين، ولكن من النظرة الأولى لأغلب تلك القوانين، تجد أن السمة الغالبة لها، أنها مقدمة من الحكومة كأحد أساليب التقدم بقوانين إلى مجلس النواب، وهو ما قصر دور المجلس عند حد المناقشة التي تنتهي بشكل عام إلى الموافقة، على ما تتقدم به الحكومة، وهو الأمر الذي يؤكد على غياب الوظيفة الرئيسية لعمل النواب، اللهم إلا النذر القليل لبعض من القوانين، والتي أذكر منها على سبيل المثال قانون رعاية المسنين، وهو الأمر الذي يؤكد على غياب الدور الأصيل لسلطة مجلس النواب، والتي يطلق عليها الفقه الدستوري لفظ ” السلطة التشريعية “.
وقد أدى ذلك التخلف عن الوظيفة الرئيسية من مجلس النواب إلى إنتاج تشريعات، لا تتوافق مع الاحتياج المجتمعي بصورة أو بأخرى، أو لا تعبر عن متطلبات الشارع المصري، وإنما تعبر عن رغبة وإرادة الحكومة، وما تفرضه من صور واستخدام لأدوات تحدد موقفها ومتطلباتها، لا متطلبات المواطنين، وهو ما أدى إلى التضييق في مساحة الحقوق والحريات، بما يتماشى مع رغبة السلطة، حتى ولو كان لا يتفق مع المبادئ أو القيم الدستورية، وهو ما نلاحظه من خلال التشريعات الجنائية، والتي لم تزل القوانين المستحدثة تسير فيها على نمط زيادة مساحة التجريم، والتشدد في العقوبة، وهو الأمر الذي يخالف الأصل العام أو الهدف الأمثل للقوانين، حيث يجب أن تتجه القواعد القانونية بما تستحدثه من تشريعات إلى حماية الشرائح المجتمعية المختلفة، وحين تنظيم الهيئة التشريعية لقواعد قانونية ذات بعد اجتماعي أو تتماهى مع الاحتياجات الاقتصادية للجماعة، فإنه يجب أن تتجه هذه التشريعات لحماية الطبقة الأقل حماية، أو تسعى بما تنظمه من قواعد قانونية مستحدثة إلى حماية المكتسبات المجتمعية على أقل تقدير، إن لم تكن تزيد عليها.
ولا يختلف الحال مع الوظيفة الثانية المخولة دستوريا للنواب البرلمانيين، وهي الوظيفة الرقابية على أعمال السلطة التنفيذية “الحكومة” فهل نشط البرلمانيون في تفعيل الأدوات الرقابية الممنوحة لهم ” سؤال – استفسار – بيان – طلب إحاطة – استجواب”؟ فهل تم تفعيل هذه الأدوات الرقابية فعليا؟ أم أن الأمر برمته يدور في فلك ما ترتجيه الحكومة، فعلى الرغم من كم المشكلات التي يعانيها المواطن المصري والأزمات المعيشية التي تحاصره، وبشكل خاص على المستوى الاقتصادي، إلا أن تلك الأزمات لم نر لها صدى في أروقة مجلس النواب، وما زالت الأسعار تتضاعف، والخدمات الحكومية تتراجع، لكن المؤسف في الأمر المتكرر منذ انعقاد ذلك المجلس في دوره التشريعي الأول، وكأنه بات هو الأصل، أن يكون دور المجلس هو مشايعة السلطة التنفيذية، فيما تريده من تشريعات أو تصرفات، وكأن الناخبين قد انتخبوا أعضاء ليس للتعبير عن إرادتهم ورغباتهم، ومراقبة الحكومة في تنفيذ سياسات تتوافق واحتياجات المواطنين، بل تم انتخابهم من أجل ترضية السلطة التنفيذية ومسايرتها فيما تجريه من أمور.
وتساؤلي الرئيسي: متى ينعم هذا الشعب بمستوى يليق من الديمقراطية والتمثيل النيابي الحقيقي، ومستوى أكثر نضجاً من الفصل المرن بين السلطات؟ وليس اندماج كامل بينهما، واختلاط في الوظائف، وهو الأمر الذي يتضاد مع كافة الأعراف والنُسق الديمقراطية، كما أنه لا يعبر عن الرغبات والطموحات الأساسية للمواطنين في مستوى لائق من الحياة.