كثيرة هي المشكلات التي تمر بها مصر اليوم؛ بسبب أزمة الغاز المشغل الرئيس لمحطات توليد الكهرباء. فمنذ عدة سنوات اكتشف حقل ظهر في مياه المتوسط، وثارت بشأنه آمال كبيرة. ولأنه لا يوجد حسيب، ولا رقيب وراء التصريحات الرسمية، ولأنه نقل من قبل عن الرئيس عبد الفتاح السيسي، “متسمعوش كلام حد غيري” في تدشين استراتيجية مصر المستدامة 2030، في 24 فبراير 2016، استبشر الناس خيرا. وبعد عدة أشهر من ذلك، وعند اكتشاف حقل ظهر، زادت الآمال بمستقبل باهر مع التصريحات الحكومية. فالحقل الواقع على بعد 200 كم من بورسعيد بالمنطقة الاقتصادية، والعامل على عمق يتراوح من1500- 4000متر به احتياطي، قدرته الحكومة المصرية بـ 30 ترليون قدم مكعب من الغاز، وسينتج نحو 3 ملايين قدم مكعب يوميا، ما يعني بحسبة بسيطة، أنه سيدوم منتجا لمدة 27 سنة. وفي 21 فبراير 2018، أعلن “السيسي”، أن “مصر جابت جول” يقصد في مرمى تركيا، بجعلها مركزا إقليميا لإسالة الغاز الطبيعي، وذلك بتوقيع اتفاق مع إسرائيل لاستيراد واحد مليار قدم مكعب يوميا من باطن المياه (مياه فلسطين داخل قرار التقسيم 1947)، وذلك من حقل تمار شمال أشدود، ويملك الإنتاج في هذا الحقل شركات إسرائيلية وأمريكية وإماراتية.
غاية القول، إن ثورة التوقعات المتزايدة يبدو، أنها أفرخت ثورة إحباطات متزايدة. فالغاز الذي كانت تصدره مصر لأوروبا مسالا، وربحت منه الكثير بعد أزمة الغاز العالمية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، أسفرت عن حجب الغاز المصري المسال عن أوروبا، وتحوله إلى السوق المصري، بعد أن شح إنتاج “ظهر” بسرعة غريبة.
حقل ظهر الذي كان ينتج 3 مليارات قدم مكعب يوميا، نقص إنتاجه إلى الثلث، فأصبح لا ينتج سوى 1,9مليار، بعد أن كان 3 مليارات قدم يوميا، ومع تراجع إنتاج أكثر من حقل مصري آخر، شح الإنتاج بشكل كبير. عمليا، تستهلك مصر يوميا 6,8 مليارات قدم مكعب من الغاز، كانت تنتج منها عام 20 /2021 نحو 7,2 مليارات قدم مكعب في اليوم، وكانت تصدر ما قيمته 8,4 مليارات دولار عام 2020، بعد أن كانت قيمة الصادرات 3,9 مليارات دولار في العام 2019، وقد ارتفعت تلك المبالغ بعد زيادة الصادرات من إسرائيل في العام المالي 21 /2022 بنسبة 45,69 % أي من 131مليار قدم في السنة المالية 20 /2021 إلى 191مليار قدم في العام التالي. وعندما نضب الإنتاج من “ظهر” وباقي الحقول المصرية، لم يتخطى حاجز الإنتاج اليومي الـ 5 مليارات قدم مكعب، وبعد الاستيراد من إسرائيل تبين، أن العجز اليومي هو 8 ملايين قدم مكعب، وقد زاد هذا العجز بشكل كبير للغاية بعد توقف حقل تمار “الإسرائيلي” عن التشغيل؛ بسبب عدوان إسرائيل على غزة. وزاد الطين بلة بعد استفحال الأزمة الدولارية التي تعاني منها مصر اليوم؛ بسبب أمور داخلية كثيرة، تفاقمت مؤخرا بانخفاض عائد المرور في قناة السويس، وتحويل مصر القليل الوارد من غاز “تمار” بعد حرب غزة إلى الاستهلاك المحلي، ومن باب أول توقف التصدير لأوروبا نهائيا.
سد الفجوة المصرية من الغاز، سيكون علاجه بعدة أمور أبرزها استيراد الغاز المسال، انقطاع الكهرباء عن المنازل والمصانع. وقد وفرت البلاد خلال الأسابيع الماضية 1,2مليار دولار؛ لتلافي تكرار انقطاع الكهرباء المستمر حتى اليوم. وتلك التكلفة ناتجة عن الشراء بـ 12,6دولار كل مليون وحدة حرارية، ترتفع إلى 18,5دولارا؛ بسبب التغوير (وهي عملية كميائية) والنقل. ويكون نصيب توليد الكهرباء من تلك العملية 3 دولارات، وإنتاج السماد 5,75 دولارات، وتصنيع الأسمنت 12دولارا، و4,5دولارات، تخص الصناعات الغذائية. وتقوم وزارة المالية بتحمل الفرق المالي.
يبقى السؤال: ما هي البدائل المتاحة أمام مصر اليوم لإنتاج الكهرباء بانتظام؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال من المهم التعرف على خريطة توليد الكهرباء، كما رسمتها وزارة الكهرباء المصرية منذ عام 2020. تقول تلك الخريطة، إن بمصر 80 محطة لتوليد الكهرباء تعمل 25 منها بنسبة 31% بالغاز والسولار، و19 بنسبة 25% بالغاز والمازوت معا، و11 محطة بالغاز فقط، و12 بنسبة 15% بالسولار، كما توجد 6 محطات تعمل بطاقة المياه، وواحدة شمسية وتعمل بالغاز، و2 بالطاقة الشمسية و3 بالرياح، وواحدة بالمازوت ومقرها الوليدية بأسيوط. وتضيف الخريطة، أن 55% من محطات التوليد تخص الدورة المركبة (أي تعمل بالغاز مع المازوت أو الغاز مع السولار)، وأن 29% من المحطات محطات بخارية، و7% محطات غاز صرفة، و5% محطات تعمل بالطاقة المتجددة من خلال الشمس والرياح، و5% أخرى بالشمس فقط.
وهكذا يتبين أن الغاز هو عامل مهم، ولكن ليس حاسما لإنتاج الكهرباء، فهو يشغل المحطات سواء وحدة أو بالشراكة مع السولار أو المازوت بنسبة تصل إلى 49%، وأن السولار المتوفر لدى مصر باعتبارها دولة منتجة للنفط، يساهم في تشغيل نحو ربع محطات التوليد سواء وحده أو بالمشاركة مع الغاز. أما المازوت فهو أقل مصدر غير متجدد، يقوم بتشغيل المحطات سواء وحده أو مع الغاز. كما يتبين بالنسبة للطاقة غير المتجددة للتشغيل، أن المازوت لا يجتمع مع السولار في عملية تشغيل أي محطة.
هنا يمكن القول، إن الغاز حيوي في عملية التوليد، ولكن لا يمكن الاعتماد على الاكتشافات الجديدة لحقول الغاز المصرية لاستيفاء حد الكفاية. صحيح أن حقل الصفا في خليج السويس هو من الحقول الواعدة مستقبلا، لكن هذ الحقل وغيره، لن يحل المشكلة قبل عام على الأقل؛ بسبب عملية تجريب التشغيل، وإجراءات التسييل والتعبئة والنقل من المصادر الجديدة.
من هنا، يبقى استيراد الغاز- ثم بقدر أقل المازوت- من الدول الأخرى، هو السبيل الأسرع والأنجع في الوقت الحالي للحد من أزمة الغاز. فالاستيراد هنا لا يحد فقط من أزمة انقطاع الكهرباء في المنازل والمصانع، بل أنه يحد من أزمة توقف المصانع التي تعمل بالغاز، وعلى رأس ذلك مصانع الأسمدة التي توقف بعضها تماما (أزمة شركة أبو قير للأسمدة نموذجا للتوقف اليوم)، ما جعل الحكومة تمتنع عن إمداد الفلاحين بالأسمدة الكيماوية، وهو ما يضر بالإنتاج الزراعي بشكل كبير.
في يونيو الماضي، طرحت الحكومة المصرية عبر القابضة للغاز الطبيعي (إيجاس) مناقصة؛ لاستيراد غاز يكفي حتى شهر أكتوبر 2024، بغرض تلافي انقطاع التيار الكهربي المسبب لحالة من ضرب شرعية نظام يونيو 2013 في مقتل، خاصة مع التغيرات المناخية المسببة لارتفاع حرارة الصيف، والتوسع في تقديم الغاز للمنازل، وتحويل عديد السيارات للعمل من البنزين إلى الغاز. جدير بالذكر، أن مصر تستهلك يوميا حسب شركة إنتاج الكهرباء 135 مليونا م3 من الغاز، و10 آلاف طن من المازوت. بالتأكيد الجزائر، ستكون واحدة من أهم الدول المقدمة للغاز، وستكون السفينة التي قامت الحكومة بتأجيرها لتغوير الغاز، وتسييله بالعين السخنة، من أهم عوامل التسريع في تقديم الغاز.
لكن رغم ذلك كله، فكل الأمل يتحتم أن ينعقد على المصادر المتجددة لتوليد الطاقة اللازمة لتوليد الكهرباء، لا سيما وأن مصر قد وقعت 3 اتفاقات تخص التغير المناخي، وتتعلق بتخفيض الانبعاثات، واحدة في 9 يونيو 1992، وثانية في كيوتو في 15مارس 1999، وثالثة عام 2016، في باريس، وتفضي تلك الاتفاقات للوصول إلى 37% لإنتاج الكهرباء من تلك المصادر عام 2037. جدير بالذكر، أن إجمالي المولد من الكهرباء كان في العام 2020، وفقا لوزارة الكهرباء نحو 197356 جيجا وات/ساعة، وأن نسبة الطاقة المولدة من المصادر المتجددة لا يتعدى 4,4%، وأن حجم الطاقة المولدة من المياه هو 7,6%.
كل ما سبق يجعل المرء، يؤكد الأهمية القصوى للاستثمار في إنتاج الكهرباء من المصادر المتجددة، بل لا غرو أن هذا الاستثمار أصبح أهم مرات، ومرات من الاستثمار في الطرق أو البناء الأسمنتي المستشري في القاهرة والساحل الشمالي، بل أن هذا النوع من الاستثمار، أصبح لا يقل عن الاستثمار في ترشيد المياه عبر محطات التنقية والتدوير.