أهمية الحدث موقوتة وآثاره المباشرة محدودة، غير أن دلالاته وردات الفعل عليه،  أقرب إلى أجراس إنذار تُدوي في المكان.

كان التفاعل الواسع، بالفعل ورد الفعل، على ما بثته شاشة إعلانات في شارع “فيصل”، أكثر شوارع الجيزة ازدحاما وصخبا، من إساءات طالت رئيس الدولة تعبيرا عن بيئة عامة مسمومة شبه يائسة من أي مستقبل.

الأجواء تستدعي التساؤل مجددا: إلى أين نحن ذاهبون؟

بكلام صريح ومباشر، لا يمكن للسياسات والخيارات والأولويات الحالية أن تستمر، أو أن تصمد أمام تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية.

وبكلام صريح ومباشر آخر، فإن مصر بأوضاعها الحالية لا تحتمل أية اهتزازات، أو اضطرابات واسعة، العواقب سوف تكون كارثية تماما ويدخل البلد إلى الإفلاس بعدما قبع طويلا على حافته.

لا توجد قوة سياسية واحدة، ولا مجموعة قوى سياسية مجتمعة، قادرة على التحكم في مسارات الغضب.

بحر السياسة جف في مصر، كما لم يحدث طوال تاريخها الحديث كله.

الجفاف السياسي يجعل من أي انفجار محتمل، عشوائيا تماما ومدمرا بأكثر من أي توقع.

إذا لم تكن هناك إعادة نظر جذرية بالسياسات والوجوه فإن الانفجار العشوائي سوف يكون محتما.

من الظلم الفادح إعفاء السياسة من المسئولية وإسنادها إلى الأمن وحده.

لا يوجد أمن بلا غطاء سياسي.

هذه حقيقة لا يصح التهرب منها بالإنكار والتجهيل.

الأمن بلا سياسة ليس حلا، وقد كانت تجربة ثورة “يناير” (2011) محملة بالدروس والعبر.

إعلام التعبئة بالدعايات المفرطة ليس حلا هو الآخر.

كان التعتيم الإعلامي الطويل على ما جرى في شارع “فيصل” في انتظار التوجيهات تعبيرا عن غياب تام لروح المبادرة، التي تغطي شواغل الرأي العام وتستقصي الحقيقة وفق الأصول والقواعد المهنية.

حضرت سطوة الدولة وغابت سلطة الضمير.

المصارحة بالحقائق أفضل مئات المرات من دفن الرؤوس في رمال التجاهل والتجهيل.

إذا أردنا أن نمضي قدما في المصارحة، التي يقتضيها الواجب الوطني قبل أي شيء آخر، فإن خزان الشرعية يكاد ينضب.

أزمات الشرعية تستحق التوقف عندها بالجدية اللازمة.

تكتسب ردات الفعل على ما بثته شاشة “فيصل” خطورتها من اتساعها ومدى غضبها إلى حدود لم تكن متصورة.

كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟

أين بالضبط أوجه الخلل؟

ثم: هل هناك فرصة للإصلاح تعطي البلد أملا في المستقبل.. أم أن معاندة الحقائق سوف تأخذ مداها وتكون الانفجارات العشوائية محتمة؟

إذا أردنا أن نقرأ التفاعلات على حقيقتها فإنه لا بد من الإجابة بجدية على هذه الأسئلة.

ليس من مصلحة البلد، ولا نظام الحكم نفسه، تغييبها أو نفيها.

أسوأ إجابة ممكنة على أسئلة “شاشة فيصل” إسناد مسئولية الحدث إلى جماعة “الإخوان المسلمين” وحدها، أو التباري فيما أطلقت عليه محطات فضائية دولية “حرب الشاشات”.

بُثت دعايات مضادة تذكر بجرائم الجماعة قبل وبعد (30) يونيو (2013)، التي استدعت غضبا شعبيا أفضى إلى إطاحتها من الحكم.

استُدعيت ورقتا “الإخوان” و”اللاجئين” لنفي الغضب المكتوم الذي تسببت فيه السياسات الحالية.

الأولى، بوصفها “قوة شر” تتأهب للانقضاض والانتقام.. والثانية، بوصفها “قوة دخيلة” تستنزف موارد البلد ولا تعترف بفضل رئاسته.

بحقائق الأمور فإن سعي الجماعة لاستثمار الحدث، أو حتى الانخراط فيه والتحريض عليه شيء، والصدى الشعبي الواسع شيء آخر تماما.

يصعب الحديث عن أي تماسك تنظيمي تتمتع به الجماعة الآن.

ضربتها الانشقاقات بفداحة بعد (30) يونيو.

غلبت المنازعات المالية على الحصص والأنصبة بين مجموعتي “لندن” و”إسطنبول” أية خلافات أخرى.

حسب وزارة الداخلية فإن المشتبه به في واقعة “شاشة فيصل”، “فني شاشات إلكترونية” قبضت عليه وحققت معه ونشرت صورته.

وقالت إنه اعترف بارتكاب الواقعة بتحريض من “اللجان الإلكترونية”، التي تديرها الجماعة المحظورة.

الكلام في صياغته العامة يتطلب تدقيقا ضروريا، حيث أسند التحريض إلى لجان إلكترونية لا إلى جهات تنظيمية.

الفارق كبير بين الحالتين.

المبالغة، على غير الحقيقة، في حجم الجماعة الحالي يصب باليقين في مصلحتها واللجوء عند كل أزمة أو منعطف إلى “فزاعة الإخوان” فقد صلته بالواقع.

من ناحية تحجب أي قدرة على قراءة المشهد على نحو صحيح وتجهض من ناحية أخرى أية فرصة للإصلاح والتصحيح.

دواعي الغضب تنصب على السياسات قبل غيرها، وقد أدخلت البلد فخ الديون الأجنبية ورهنت مستقبله لصندوق النقد الدولي.

كان الشروع في بيع أصول الدولة داعيا إضافيا لمزيد من الغضب، الذي أخذ يتصاعد إلى حافة الانفجار.

استخدمت ورقة اللاجئين السودانيين في البداية لنفي أن يكون مصريا قد ارتكب واقعة “شاشة فيصل”.

كان ذلك اتهاما عشوائيا وكاذبا على ما أكدت وزارة الداخلية بنفسها.

قبل استبيان أية حقيقة جرت حملات على الأشقاء العرب، أو ضيوف مصر، بتعبير الرئيس “عبد الفتاح السيسي” نفسه واتهامهم بكل نقيصة.

ناقضت اللغة العنصرية، التي استخدمت، الإرث المصري في احتضان الذين لجأوا إليها عربا وغير عرب، كما لو أن البلد ينكر تاريخه والإسهامات التي بذلها الشوام بالذات في نهضته الحديثة، بالصحافة والمسرح والغناء والأدب.

لا يمكن كتابة التاريخ الثقافي المصري دون الأدوار الجوهرية التي لعبوها.

عندما تستحكم الأزمات تضيق الرؤى والصدور حتى أخذت مدى عنصريا كريها مع الأشقاء السودانيين والسوريين.

هذا وضع خطر يهدد مصر في صميم أمنها القومي ومصالحها الحيوية المباشرة.

لا تقدر مصر ولا تحتمل الاستغناء عن المشرق العربي.

في الانعزال انكسار وتهميش لأية أدوار مصرية في المستقبل.

كما لا تقدر مصر على الاستغناء عن السودان، حيث يربط البلدين مصير واحد وشريان حياة واحد.

ماذا تفعل مصر إذا أدلهمت أزمة المياه بأثر السد الإثيوبي إلى حدود العطش وتبوير عشرات آلاف الأفدنة غير أن تفكر في دور مشترك مع السودان عسكريا أو سياسيا لمواجهة تلك الأخطار الوجودية.

مصر تحتاج أن تحاور نفسها بغير هزل، لا تفرط في مكامن قوتها، ولا تسند أزماتها إلى غير أسبابها حتى تتجاوز الأيام الصعبة الحالية بأقل الأخطار الممكنة.