تصديق دولة سادسة على اتفاقية عنتيبي التي تحرم مصر من موارد الحد الأدنى من المياه، ربما يكون متوقعا من جانب المراقبين والخبراء في المجال، ولكن أن تجيء الخطوة من جنوب السودان تحديدا، فهذه كانت المفاجأة الصادمة للوجدان المصري غير الرسمي علي الأقل فالعلاقات المصرية الجنوب سودانية، هي علاقات مميزة، حتى قبل إعلان استقلال الدولة في ٢٠١١، حيث كان يحظى شعب جنوب السودان بنسبة مقدرة من المنح التعليمية، كما أن الجالية الجنوب سودانية هي جالية كبيرة، نزحت الي مصر طوال العقود الماضية؛ بسبب الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، فضلا عن أن الإسناد الرسمي المصري لمقدرات دولة جنوب السودان الشاملة هو مجهود مشهود، حيث تم تصنيف العلاقات بين مصر وجنوب السودان، على أنها بنفس الأهمية الاستراتيجية لشمال السودان، ولم تتوقف علاقات التفاعل الإيجابي بين البلدين، منذ يوليو ٢٠١١، وحتى اليوم، ففي يونيو الماضي، افتتح وزير الري المصري، عدداً من المشروعات المائية في جنوب السودان، منها مركز التنبؤ بالأمطار والتغيرات المناخية، ومشروع تطهير بحر الغزال من الحشائش المائية، وعددا من آبار المياه الجوفية، كما سلّم حكومة الجنوب، 4 طائرات مقدمة صغيرة، تستخدم في الإغاثات العاجلة.


وبطبيعة الحال، لا نتحدث هنا بمنطق المن الذي أعلم أن الوجدان السوداني بشكل عام لا يقبله، ولكني أتحدث هنا لأرصد المجهودات المصرية في التفاعل الإيجابي مع دولة جنوب السودان، بهدف تقييم هذه المجهودات وأثرها في السياسات الجنوب السودانية، لنكتشف نحن أين قصرنا، ولماذا لم يتم الاعتداد بالتفاعل المصري الإيجابي مع دولة جنوب السودان؟
في التقييم على الجانب المصري، أظن أن السياسيات المصرية في إفريقيا عموما منقوصة وليست كاملة، لأن القوة الناعمة المصرية فيها معطلة، ووزارة الثقافة المصرية، يبدو لي، أنها لم تسمع إننا أفارقة، حيث يلعب عاملا الإدراك بأهمية إفريقيا، وكذلك قصور الموارد، أدوارا حاسمة في عدم التفاعل الإيجابي مع الخبراء في هذا المجال.
على صعيد مواز، فإن مصر لم تنجح في إرسال رسائل واضحة وفعالة لبيان حيوية مواردها المائية لحياة شعبها، لا على صعيد الذهنية الإفريقية، ولا على صعيد الذهنية العالمية، حيث اعتمدت الإدارة المصرية آليات الدبلوماسية التقليدية، وكان من المأمول، أن يلعب مجلس للشؤون الإفريقية دورا في هذا المجال، كما اقترحنا على الرئيس عام ٢٠١٨، من حيث التركيز على العلاقات الإفريقية الإفريقية من المنصة المصرية في كافة مفاصل الدولة المصرية، ولكن عبر كل هذه السنوات تداولت الاقتراح الوزارات المصرية، دون تفعيل المقترح؛ ظنا من بعض الجهات، أن المجلس ربما يكون افتئات على صلاحياتها الرسمية.


وقد يُضاف إلى العاملين السابقين، عامل ثالث، يرتبط بطبيعة الأداء الحكومي المصري من حيث الفاعلية والإنجاز على الأرض في المواقع الإفريقية، ذلك أنني في أحد زياراتي لجنوب السودان منذ عدة سنوات، رصدت مثلا، أن المستشفى المصري في جوبا يعمل حتى الثانية ظهرا فقط.


أما أسباب دولة جنوب السودان في الانضمام إلى اتفاقية عنتيبي، أظنه مرتبط بمجريات الحرب السودانية في الشمال السوداني، حيث باتت جوبا أكثر ضعفا إزاء الضغوط الإثيوبية التي تسعى إلى إعادة تقسيم الموارد المائية لنهر النيل وحرمان مصر والسودان منها ، ذلك أن أنابيب النفط الجنوبي إلى ميناء بورتسودان قد تم الإضرار بها في العمليات الحربية  في شمال السودان، وحجم تصدير النفط الجنوب سوداني من ميناء بورتسودان، قد انخفض نتيجة لذلك  بنسبة ٥٠٪ تقريبا  الذي هو المورد الأساسي للموازنة العامة السودانية.
وعلى نحو مواز، فإن الوجود الإسرائيلي في جنوب السودان هو مشهود في القطاعين السياحي والاستخباري، من هنا فمن غير المستبعد أن تكون الخطوة الجنوب سودانية تحقيقا لرغبات إسرائيلية مستدامة بطبيعة الحال؛ لإضعاف مصر الدولة التي تملك دوما قدرات كامنة طبقا للتصنيف العالمي؛ بسبب مواردها البشرية التي تتميز بدافعية كبيرة للإنجاز، وهي مخاطر من دولة طوق مباشر لإسرائيل.


وقد يكون من المهم السؤال هو كيف وقعنا في فخ اتفاقية جديدة بشأن النيل؛ ليكون موقفنا اليوم هو إمكانية حرماننا من مواردنا المائية، وعدم الاعتراف باتفاقيتي ١٩٢٩ و١٩٥٩.
يبدو لي، أن مصر عام ١٩٩٩ قد وقعت تحت ضغوط دولية كبيرة خصوصا من جانب البنك الدولي والأمم المتحدة بشأن النيل، لم تستبصر فيها القاهرة بشكل كاف المرامي الاستراتيجية لهذه الدول، كما لم تدرك حجم التناقض في المصالح بين دول المنابع الذين هم غالبية ودولتي المصب أي مصر والسودان، فلم تمتلك القاهرة القدرة على المقاومة في وقت، سيطرت فيه على الإدارة المصرية فكرة التمويل من الخارج (ولا تزال)، حيث تم طرح مبادرة النيل، وتم هندسة خطابها المعلن؛ ليكون تنمية الموارد المائية لنهر النيل، وزيادة المشروعات التعاونية بين دول الحوض بهذا الشأن، ولكن بدلا من السعي من جانب مبادرة نهر النيل  نحو تنمية موارد النهر بـ ٥٦ مليار متر مكعب، مهدرة في المستنقعات السودانية، ولإثيوبية تم بحث تقسيم الموارد الفعلية الراهنة، وهي ٨٢ مليار متر مكعب من المياه، التي هي سبب حياة شعبي وادي النيل، كما برزت مدرسة عدم الاعتراف بالمياه الخضراء كموارد مائية لدول حوض النيل أي مياه الأمطار التي تلعب دورا طبقا للقانون الدولي في حسم نسبة الدول من المياه الزرقاء، أي الأنهار الدولية المشتركة كنهر النيل، بمعني مواز يتم النظر الي مورد مياه النيل، دون اعتبار للموارد المائية الأخرى لدول حوض النيل.


الحالة الموضوعية بشأن تناقض المصالح بين دول حوض النيل، لعبت دورا كبيرا في عدم بلورة إطار قانوني جديد لنهر النيل مقابل الإطار المتمثل في المعاهدات التي عقدت زمن الاستعمار، بالإضافة إلى اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان، حيث تمسكت القاهرة والخرطوم، باستخداماتهما الحالية لنهر النيل، باعتباره أمنا مائيا لشعوب، تفتقد موارد مائية أخرى، وفي مقابل ذلك طرحت دول المنابع فكرة الاستغلال المنصف والمعقول للمياه، وهو ما تسبب في اعتراض مصر والسودان على صياغة المادة 14(ب) التي تنص على  عدم التأثير بشكل كبير على الأمن المائي لأي دولة أخرى في حوض النيل، واقترحت بديلا لها صياغة “عدم التأثير بشكل كبير على الأمن المائي والاستخدامات الحالية وحقوق أي دولة أخرى في حوض النيل”. حيث تم رفض هذه الصياغة من قبل دول المنبع، التي قالت إنها تؤسس لفكرة الحقوق التاريخية لدول بعينها في نهر النيل.


على المستوى الإجرائي، فإن الموقف المصري معقد حالياً تجاه اتفاقية (عنتيبي)، فالقاهرة بين خيارين: إما الموافقة على الاتفاقية للمشاركة في اجتماعاتها وحماية حقوقها، وإما عدم التصديق عليها، والغياب عن الاجتماعات، وهو ما يعرضنا لإمكانية اتخاذ دول المنابع قرارات مصيرية، مثل إلغاء الاتفاقيات المائية التاريخية السابقة.


أما على المستوى السياسي، فإن ٦ دول من ١١ قد صادقت على اتفاقية مبادرة النيل عنتيبي، وتنظر دولة سابعة لدخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ، الذي يتطلب مصادقة ثلثي الدول المعنية، وهو أمر أراه ليس ببعيد في ضوء اعتماد الإدارة المصرية الراهنة على نظرية الكمون الاستراتيجي؛ ظنا منها أن هذا الكمون كفيل بحماية تجربتها التنموية، وبالتالي قوتها الذاتية، ولكن يبدو أن هذه النظرية قد تجاهلت، أن مصادر الأمن القومي المصري غالبيتها، هي مصادر خارجية، وأعلاها أهمية هو الأمن المائي، وبالتالي لا مناص من بلورة سياسيات جديدة، تتجاهل فكرة الكمون الاستراتيجي التي أراها مسئولة عن تراجع الوزن الإقليمي لمصر.


وإلى جانب تغيير الخيارات الاستراتيجية المصرية في هذه المرحلة، على نحو يحمي مصالحنا فعلا، فإنه يجب بلورة موقف حازم وحاسم من المنظمات الدولية التي تُوقِعنا في فخ التخلي عن شريان حياتنا، وهو النيل، تحت لافتات تعاون إقليمي، لا يلتفت للمياه المهدرة (٥٦ مليارا)، ويلتفت فقط  لمصدر حياتنا وهو موارد النيل الحالية (٨٢مليار)، وهو أمر يتطلب على الصعيد المصري، فيما أرى بلورة مشروعات تعاون إقليمي مع دول حوض النيل، تصاغ مصريا، تزيد الموارد المائية للنهر، وربما تتجه إلى قوى دولية أخرى؛ لتمويل هذا المجهود كبديل عن البنك الدولي، وهو أمر يتطلب تضافرا لكل جهود المجتمع المصري، دون عزل للقوة الناعمة، كما هو جار حاليا.


بلورة موقف مصري جديد إزاء مسألة سد النهضة، ونحن في سياق الملء الخامس، بعد أن تحول إلى قنبلة مائية، حيث أنه من غير المطلوب السكون في هذه المرحلة.
تفعيل قوة ردع ظاهرة ومؤثرة في الإٍقليم؛ لصيانة حقوق ومستقبل الأجيال القادمة في الموارد المائية، وغيرها من مستلزمات الدول متوسطة القوة كحالتنا لحماية أنفسنا والأجيال المصرية القادمة في كافة المجالات.