كتب- عمرو خان

حين ضعفت قوة تحملها ونفد صبرها؛ فرت “وناسة”– اسم مستعار بناء على طلب المصدر- من الخرطوم في نهاية مايو 2023، نازحة إلى القاهرة بحثًا عن الأمان.

في أكتوبر من العام نفسه، سافرت من القاهرة إلى الرياض لزوجها المقيم في السعودية، وهناك تلقت استدعاء من جهة عملها، يضطرها للعودة للسودان، لتواجه مخاطر لا تحصى.

تعمل “وناسة” بجهة سيادية في السودان، امرأة أربعينية تحمل رتبة عسكرية، تناسب عمرها، حصلت على درجة الدكتوراه عام 2022، وأنجبت طفلين، بعد زواجها بخمسة أعوام، وترعاهم ووالدتها المسنة، بعد سفر زوجها للعمل في السعودية.

بعد شهرين من اندلاع الصراع، كانت قذائف الهاون أصابت شرفات النوافذ والأبواب، وأحدثت تصدعات بالجدران الخارجية للمنزل، وتسرب الرعب لأطفالها، وكادت والدتها أن تفارق الحياة؛ لاختناقها بدخان احتراق السيارات خارج المنزل.

لم يعد الموت مصدر الخوف في السودان؛ بل باتت الحياة تحت وطأة الحرب وتداعياتها أشد فزعًا وأكثر رعبًا

لم تكن وناسة وحدها من اتخذ قرار النزوح فرارا من واقع مرعب، فقد نزح 7.8 ملايين سوداني، منهم 6.1 ملايين داخليًا و1.7 مليون لدول الجوار حتى يناير 2024.

قبل الحرب، كان السودان يضم أكثر من 3 ملايين نازح داخليًا، مما رفع إجمالي عدد النازحين إلى 10.7 ملايين وفقًا لمصفوفة، تتبُع النزوح للمنظمة الدولية للهجرة.

تدهور الوضع الإنساني وموجات النزوح

بالإضافة إلى ذلك، لقى أكثر من 13 ألف شخص حتفهم في السودان منذ بدء الحرب، بحسب مكتب المملكة المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

في يناير 2024 كان الاختبار الصعب..

تحكي “وناسة” في اتصال عبر التقنيات الرقمية، في يناير 2024: “قرار الرجوع للسودان صعب، لو رفضت الرجوع، معناها الحرمان من دخول السودان نهائيًا، ولو رجعت، معناها مواجهة مصير مجهول”.

صراع البقاء والرحيل

تستعيد وناسة” ذكريات الحرب في الخرطوم- ورحلة نزوحها، لتحكي: “عشنا أياما صعبة، واحنا محبوسين في البيت، كنا في 24 رمضان 2023، وخزين تموين الشهر في نهايته، والخروج من البيت مستحيل، ورغم شح الإمكانات والموارد تحملنا قرابة الشهرين، وداومت على الصيام بعد رمضان 30 يوما أخرى، حفاظًا على ما لدينا من طعام وشراب، وخوفًا من الخروج من المنزل”.

إنها الحرب

تحكي “وناسة” عن صباح اليوم الأول لاندلاع الحرب 15 إبريل 2023: “يومها مكنتش عارفه الحاصل أيه، وما ظنيت أبدًا أنها الحرب”، وتتابع: “حكاية إنك تنام في سلام؛ وتصحى على حرب، كأنك في منام؛ حكاية لا يفضل الكثير مجرد سماعها أو تخيل تجربتها، وأنا واحدة من سيئي الحظ، عشت الحكاية بتفاصيلها، وعندي تجربة، لم تنته بعد”.

“فلاش باك”.. للحرب أقوالًا أخرى

 ليلة الحرب، كانت “وناسة” انتهت من ترتيب منزلها بعد السحور، وأطفأت الأنوار، وتفقدت أطفالها ووالدتها في سرائرهم، تحكي: “أمسكت هاتفي، ووضعت جسدى المنهك فوق سريري، وتصفحت حسابي على فيس بوك، وغلبني النوم، والمفروض أصحى على صوت المنبه، ولكن؛ للحرب أقوالًا أخرى”.

صورة بتقنية AI لـ”وناسة” ليلة اندلاع الصراع في الخرطوم

المصائب لاتأتي فرادي كالجواسيس؛ وتأتي سرايا كالجيش

-مقولة لويليام شكسبير-

الموت بالمنزل والقتل خارجه

تحكي وناسة: “اشتد الصراع وبدأت الأزمات تضغط علينا، انقطاع الكهرباء والمياه ونفاد السلع التموينية ونقص الأدوية، وأصبحنا معرضين للموت جوعًا داخل البيت، أو الموت قتلًا في الخارج، فمعظم من خرجوا للبحث عن الطعام لم يعودوا”.

بعد شهر من الصراع؛ نزح من الخرطوم نحو 2709 أسر ونحو 13ألفا و545 شخصا، منهم أقارب “وناسة” تقول: “كل الناس نزحوا، ومنهم أقاربنا وأمي بدأت تقلق، وتهدئتها أصبحت ضغطا عصبيا ونفسيا عليّ (أمي دايرة تمشي الولايات الآمنة، وما جنعانة “مقتنعة” بخطورة الخروج من المنزل)، حتى خطورة وضعها الصحي وعدم قدرتها على متاعب النزوح، لم تقنعها، ومع مرور الوقت، بدأت المخاطر تدق باب منزلنا”.

الأمومة أهم

نحت “وناسة” التزامها بالواجب الوظيفي أمام دورها تجاه طفليها ووالدتها، وفكرت في الفرار من الخرطوم نزوحًا للقاهرة، فخرجت ليلًا متخفية، لا تحمل إلا الأوراق الثبوتية لها ولأسرتها، تاركة خلفها كل شيء، حملت معها ذكريات الجثث المنتشرة على جنبات الطريق، وصور البنايات المهدمة والحرائق داخلها، تلتهم كل شيء، حتى مدرسة طفليها، اشتعلت بها النيران، وتحولت لثكنة عسكرية- حسب قولهاــ .

 فرت “وناسة” وسط القتال المسلح- وتحفظت عن تفاصيل الخروج-، حتى وصلت معبر أرقين على الحدود المصرية السودانية، وهناك واجهت قرارها الثاني وصدمتها الأولى بعيدًا عن القصف في السودان.

في ذلك التوقيت كانت الحدود المصرية السودانية تشهد حركة غير عادية.

بنهاية مايو 2023، أبلغت الفرق الميدانية التابعة لمكتب منظمة الهجرة الدولية في السودان عن حركة كبيرة عبر الحدود قادمة من ولايات الشمال وولاية نهر النيل إلى مصر عبر نقاط دخول أرقين وحلفا. ولاحظت الفرق الميدانية، أن هذه الحركة بدأت في 27 إبريل 2023، من مختلف المواقع في الخرطوم، حيث أثرت الاشتباكات على الأسر السودانية، ودفعتهم للنزوح عادة عبر دنقلا وعطبرة في طريقهم شمالًا نحو مكتب الجوازات في حلفا، وأبلغت وزارة الخارجية المصرية عن وصول 16.000 فرد من السودان.

كلمة شرف.. جواز العبور إلى القاهرة

الوصول إلى الحدود السودانية مغامرة غير محسوبة، محصلتها الموت أو الميلاد من جديد، خاصة بعد استهداف العناصر المسلحة لسيارات النازحين التي تقصد الحدود، وفي الوقت الذي كان فيه المطرب السوداني محمد خالد، يجمع أشلاء الرفاق في رحلة النزوح، كانت “وناسة” داخل مكتب الجوزات الحدودي بمعبر أرقين، تقف في موقف معقد، تريد العبور، دون تصريح سفر من جهة العمل، وفك عقدتها تدخل مسؤول سوداني رفيع المستوى، إذ قدم لضابط الجوازات “كلمة شرف” بعودتها عند تحسن الأوضاع في السودان، تقول :”وصلت القاهرة نهاية مايو 2023، وكنت مضغوطة نفسيًا بأعباء تدبير السكن ومشكلة خروجي المخالف من السودان، و كيف سيكون مستقبلي بعد ذلك”.

الحرب والأثر النفسي

عانت “وناسة” صراعا نفسيا؛ بسبب الحرب مثل آلاف السودانيين، ويؤكد تقرير منظمة التنمية الإنسانية العربية: “أن للحرب آثار نفسية عنيفة على الإنسان، وأن مناطق الحروب تعاني من ضعف في مستوى الخدمات الصحية النفسية”، كما  في الرسم البياني التالي.

اضطراب ما بعد صدمة الحرب

تؤكد دراسة بعنوان: انتشار اضطراب ما بعد الصدمة لدى النازحين داخلياً من الخرطوم بعد حرب السودان في إبريل 2023 (نُشرت في المجلة الدولية للأبحاث متعددة التخصصات (IJFMR)): “النزوح يؤدي إلى مشاكل الصحة العقلية المختلفة مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، منها (الاكتئاب، القلق، تكرار ذكريات الحرب، أحلام يقظة، تخيل إعادة تجربة النزوح)”.

وأظهرت الدراسة، أن اضطراب ما بعد الصدمة هو أحد الاضطرابات النفسية الأكثر شيوعًا التي يتم تشخيصها لدى97.7% من النازحين السودانين، منذ إبريل وحتى يوليو 2023.

القرار الصعب

خلال التواصل مع “وناسة” لمعرفة وضعها الصحي، سألناها عن موقفها بشأن العودة إلي السودان، وأخبرتنا عن قرارها قائلة: “علمت من صديقتي، إني إذا استطعت دخول السودان، سيتم ترتيب انتقالي إلى مقر عملي بشكل آمن، بعدها سيتم إنهاء بعد الإجراءات الخاصة بانقطاعي عن العمل، ولقد أكدت لي دعمها ودعم أصدقاء آخرين، وبناء عليه سوف أعود إلى السودان”.

اتخذت قرارا يخالف معطيات الواقع علي الارض

يقول الدكتور أيمن زهيري الخبير في دراسات السكان والهجرة الدولية: من الصعب بل المستحيل عودة السوادنيين الآن إلى وطنهم، فلا يستطيع أي مواطن الوصول إلى “أم درمان” أو” كردفان” أو “الخرطوم” و “الجزيرة” و”مدني”، لأنه ببساطة هذه الولايات تحولت لثكنات عسكرية لطرفي الصراع، وأن العودة حتى إذا لم تكن اضطرارية تمثل رحلة إلى الموت، وأعتقد أنها رحلة غير مبررة على الإطلاق”.

ويرى الدكتور أيمن زهيري، أن العودة في ظل الحرب الطاحنة بين الجيش و”الدعم السريع” مجازفة: “لا أرجح فكرة العودة، لأن أولًا: لا مجال للعودة، ولا يوجد طرق آمنة لخوض هذه المخاطرة، وطرق التهريب أكثر خطورة، وثانيًا: فكرة أن يعود مواطن إلى بلده تهريب خطر جدًا، هذا أمر مجرد تخيله مرعب، فمن الممكن أن يُفقد في الحدود أو يُقتل أو يتعرض لخطر”.

ويستطرد: “في الواقع الناس هربت من الموت، ورأت أهوالا في طرق الفرار أو النزوح، وأن فكرة العودة مرة أخرى إلى هذه الأهوال والمخاطر أمر مستحيل”.

تسجيل صوتي لرأي الدكتور أيمن زهيري

وكان رأي “زهيري” بالنسبة لمشكلة “وناسة” المضطرة إلى العودة للسودان، إنها وإن نجحت في العودة بسلامة، فإنها سوف تواجه وضعا إنسانيا كارثيا، وقال: “هناك تدهور في الخدمات الصحية والطبية، وتدهور في الأمن الغذائي والمائي، هذا بخلاف تعرض المدنيين لهجمات أطراف الصراع، حتى المناطق أو الولايات التي لم تطولها الحرب حتى الآن، فإنها وأن كانت آمنة من الصراع المسلح فهي مصابة بتدهور اقتصادي أثر على الوضع الصحي والغذائي والطبي”.

بدون ما تعرف قتلك منوه؟

لم تكن “وناسة” وحدها التي تعرضت لمخاطر وأهوال النزوح، فهناك كان محمد خالد- شاب عشريني- ومطرب من منطقة العزيزاب في وسط الخرطوم، التقينا معه في القاهرة ليحكي لنا كيف نجا من الموت خلال رحلة نزوحه من الخرطوم: “بعد أن اشتد القتال في العزيزاب، وأصبحنا لا نعرف من أي اتجاه تستهدفنا القذائف، قررت النزوح إلى ولاية نهر النيل، وركبت حافلة نقل بري مع مجموعة من النازحين، وكنا لا نعلم شيئا عن استهداف الحافلات، وفي وسط الطريق تحديدًا في حي بحري، تعرضت الحافلة للاستهداف بـ “دوشكة” -سلاح رشاش- لا نعرف مصدرها، وتوفي معظم الركاب، ونجوت مع عدد قليل بأعجوبة، وهذه واحدة من قصص كثيرة لناس مجبرة على النزوح؛ لتنجو بروحها وتموت في آخر عتبة، ونحمد الله أني نجوت، وهناك أهالي كتير بتفتش عن أولادها المفقودين خلال النزوح، بسبب القتل غير المنطقي، بدون ما تعرف قتلك منوه”.

صورة بتقنية AI لتمثيل مشهد استهداف الأتوبيس

تسجيل صوتي لنص شهادة محمد خالد عن استهداف حافلات النازحين

عن النزوح ..والنازجين

نزح  7.8 ملايين سوداني، منهم 6.1 ملايين داخليًا و1.7 مليون لدول الجوار حتى يناير 2024. قبل الحرب كان السودان يضم أكثر من 3 ملايين نازح داخليًا، مما رفع إجمالي عدد النازحين إلى 10.7 ملايين وفقًا لمصفوفة تتبع النزوح للمنظمة الدولية للهجرة.

إضافة إلى ذلك، لقي أكثر من 13 ألف شخص حتفهم في السودان منذ بدء الحرب، بحسب مكتب المملكة المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

الألم ..ليس جديدا

آلام النزوح والخوف المعلق فوق الرؤوس مشاعر عايشها السودانيون كثيرا.. فمنذ الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي، تمسكت بالسلطة حكومات برلمانية غير مستقرة في ضوء أنظمة عسكرية، انجرفت إلى شتى أنواع الخلاف والصراع والحروب الأهلية مع جماعات مسلحة ومتمردين، ويسدد كُلفة الصراع 40 مليون سوداني، منهم نازحون و/أو لاجئون على أعتاب حدود متجاورة جغرافيًا، وآخرون يعيشون تحت القصف في منازلهم.

أعداد النازحين السودانيين إلى دول الجوار

“مجاهد”… حكايات من دفتر معالج نفسي

مجاهد البكر- شاب سوداني ثلاثيني- أخصائي نفسي ومعالج، ومؤسس مبادرة “تلقانا سند” للإغاثة والدعم النفسي في الخرطوم. ليحكي لنا عن تجربته مع الحرب ودوره كمعالج نفسي مع النازحين المصابين بصدمة ما بعد الحرب.

يقول: “أصيب صديقي بطلق ناري في الأمعاء الدقيقة، وكاد أن يفارق الحياة لعدم توافر غرفة عمليات بعد خروج مستشفيات الخرطوم عن الخدمة، وأجريت له جراحة بالإسعافات الأولية، وتحسن وضعه الصحي ببطء، لكن حالته النفسية تدهورت”.

زارت الحرب سكن أسرة مجاهد بالخرطوم، فقرر نقلهم إلى مدينة القضارف في الشرق، وتفرغ لدعم صديقه نفسيًا، وحالت دون شفائه نقص الإمكانات الطبية، فطلب مساعدة أخصائيين نفسيين بالولايات المجاورة، ولكنه اكتشف تدهور الأوضاع هناك، في ظل تزايد أعداد النازحين، فتعاونوا في تأسيس مبادرة “تلقانا سند” للدعم النفسي للنازحين”.

صورة توثق جلسات العلاج النفسي  في أحد مراكز الإيواء

في مايو 2023 بدأت رحلة “مجاهد” عبر المدن ليلًا متخفيًا، لزيارة مراكز إيواء النازحين في النهار، يحكي: “اشتغلت على كشف حجم الصدمات النفسية التي أصيب بها النازحون من الخرطوم إلى أم درمان بمراكز الإيواء البعيدة بالولايات، وركزنا على برامج حماية الأطفال ودعمهم لرفع معدلات الصحة النفسية لديهم”.

تسجيل صوتي لنص شهادة مجاهد عن النازحين المصابين بصدمة ما بعد الحرب

طوارئ الخرطوم.. خارج الخدمة

دفعتنا أزمة “وناسة” للبحث والتحقق عن الوضع الأمني والصحي والطبي والغذائي في السودان، وعن المصير الذي ينتظرها في حال قررت العودة، وخلال مراحل التحقق، وردت إلينا معلومات عن تشكيل غرف طوارئ من المتطوعين من القوي المدنية والمنظمات غير الحكومية في الخرطوم وأم درمان، لتقديم المساعدات الإنسانية وتوزيعها على سكان الولايات الباقين في منازلهم وعلى النازحين في بعض المناطق، ولصعوبة التواصل المباشر معهم، خلال البحث علمنا بعقد لقاء عبر منصة ” X ” في مساحة بعنوان:” منبر المغردين السودانيين” للحديث عن وضع غرف الطوارئ في ولاية الخرطوم بعد قطع الاتصالات الهاتفية والإنترنت، وتواصلنا مع المدون السوداني  منتصر الأمين القائم على مساحة “منبر المغردين السودانيين” وطلبنا مداخلة خلال الاجتماع والمشاركة للاستماع والاطلاع على الأضرار التي تعرضت لها غرف الطورائ في الخرطوم؛ من جراء انقطاع الاتصالات في يناير وحتى فبراير 2024.

صورة مسجلة لمداخلتنا مع اعضاء غرف الطوارئ بالخرطوم

تسجيل صوتي لمشاركتنا في اجتماع  مسؤولي غرفة طوارئ في الخرطوم

فبراير 2024   “تلقانا سند”.. مركز إغاثة الناس في “الجزيرة”

بحلول يناير 2024، توسع الصراع  في السودان، وانتقل من الخرطوم وأم درمان إلى ولاية الجزيرة التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع في ديسمبر 2023، وارتفعت معدلات تدهور الحالة الصحية والطبية والنفسية وانتشرت الكوليرا، وزاد خوف الناس من كل شيء، بعد انقطاع الاتصالات الهاتفية والإنترنت، يحكي مجاهد”: “لم يعد الموت هو المخيف للناس، أكثر من البقاء على قيد الحياة والجوع والمرض”.

يتابع: “الحرب في الجزيرة رجعتنا خطوات كتيرة للخلف، كنا تقدمنا في علاج النازحين من الخرطوم وأم درمان، وحققنا نتائج مذهلة، ولكن ناس الجزيرة زادت مخاوفهم من تكرار انتهاكات الخرطوم وأم درمان لهم، لكن كانت عملية نزوحهم مستحيلة”.

تسجيل صوتي لشهادة مجاهد عن تدهور الوضع الأمني والصحي النفسي والطبي

“الجزيرة”  تستضيف هالوين الموت.. يناير 2024

بحلول ديسمبر 2023، كانت القتال قد فرض سطوته على ملامح الحياة في شوارع العاصمة السياسية والجغرافية للسودان- الخرطوم- والعاصمة الثقافية- أم درمان- وتحولت المعالم التاريخية للمدن لهضاب من الركام، واستضافت ولاية الجزيرة هالوين “ما يسمى عيد الرعب في ثقافات آخرين” الموت.

وأدى ارتفاع معدلات الجوع وانعدام الغذاء وتدهور الحالة الصحية والطبية لموجات نزوح جديدة داخليًا وخارجيًا، من بينهم نحو 3.35 ملايين طفل- بحسب مركز معلومات مكتب المملكة المتحدة للشؤون الخارجية.

سقوط الجزيرة

سقطت ولاية الجزيرة في أيدي قوات الدعم السريع في ديسمبر 2023، وأصبحت عاصمة الولاية “ودي مدني” قاعدة عسكرية للقادة الذين تقاتلوا على غنائم الولاية، والتي كانت النساء والفتيات من بينها، بحسب شهادة الدكتورة الصيدلانية سارة علي- امرأة ثلاثينية- من “ود مني”  تقيم بأمريكا منذ 2012، وجاءت للقاهرة في فبراير 2024، في انتظار وصول والدها وشقيقتها بعد نزوحهم من الجزيرة.

تحكي لنا في اتصال هاتفي مسجل بناء على رغبتها: “أهلي منتشرين في 15 قرية بـ “ود مدني”، وكلهم تعرضوا للانتهاكات من الجنجويد، وشهدوا على جرائمهم في حق سكان الجزيرة، كما فعلوا في درافور عام 2003”. معروف أن الجنجويد هي ميليشيات مسلحة من عناصر عربية تخضع للدعم السريع.

تقول سارة: “بعد دخول الجنجويد “الجزيرة” بأسبوعين انقطعت الاتصالات والإنترنت، وفقدت التواصل بأهلي في “ود مدني”، لكن ربنا أراد يساعدني، بصديق سوداني في أمريكا، أهله عايشين في ولاية “كسلا” في السودان بعيد عن الحرب، ورتب لي طريقة للتواصل مع أهلي، وترتيب خروجهم من “الجزيرة” لـ “كسلا” لحين إنهاء إجراءات نزوحهم إلى القاهرة ووصولي إلى مصر لترتيب سفرهم إلى السعودية”.

تسجيل صوتي لشهادة -د. سارة علي- على انشقاق الجنجويد والوضع الأمني في الجزيرة

منذ اندلاع الحرب في السودان فر نحو 500 ألف نازح إلى ولاية الجزيرة، أغلبهم من العاصمة الخرطوم التي كانت مركزا للقتال، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

 وقال المكتب الأممي إن مدينة “ود مدني” التي تبعد نحو 100 كيلومتر جنوب شرقي الخرطوم، كانت قد استضافت أكثر من 86 ألف نازح.

تقول “سارة”: “بسبب قطع الاتصالات والإنترنت عن الجزيرة توقف تطبيق “بانكك” (محفظة تبادل الأموال الرقمية)، فكان هو مصدر استقبال الأموال التي كنت أرسلها لأسرتي لدعمهم بعد تأزم الأوضاع بالجزيرة، بعد شح النقود الكاش التي سرقتها العصابات المسلحة وقوات الجنجويد”.

الذل والإهانة عقاب “فتح الهويس”

قبل انقطاع الاتصالات، علمت “سارة” من أسرتها عن انتهاكات الجنجويد في حق أهل الجزيرة، تقول: “كانوا يتعمدون إهانة الرجال والشباب لكسر عزيمتهم، وإضعاف مقاومتهم لهم، وإدخال الرعب في قلوبهم، خاصة بعد أن نجح أهل الجزيرة في قطع الطريق عليهم قبل اقتحامهم لها، بفتح حواجز المياه في ترعة كبيرة “هويس” لإغراق الطريق حتى يصعب المرور، وبعد يوم واحد فقط، تم الاقتحام، وبدأ الجنجويد في الانتقام منهم، وجمعوا الرجال والشباب وأجبروهم على الجلوس في وضع الركوع، وأمروهم بجمع التراب بأيديهم لردم الطين على الطريق، وكان مصير المعترض الضرب والذل والإهانة أو الموت”.

تسجيل صوتي لشهادة د. سارة على بخصوص واقعة الانتقام والذل والإهانة لرجال الجزيرة من الجنجويد

ووفقًا لبعض التقارير الأولية لقطاع الصحة في السودان: فُقد جزء كبير من مخزون الأدوية واللقاحات في “ود مدني” أو تعرض للنهب بعد توسع النزاع إلى ولاية الجزيرة في ديسمبر 2023- بحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية عن السودان يناير 2024.

الهروب من الموت بالحيلة

رتبت “سارة” مع جارها في أمريكا، طريقة إنقاذ أسرتها في “ود مدني” عن طريق أحد أقاربه في “كسلا”، على أن يذهب لإخراجهم من “مدني”  إلى “كسلا”، إلى حين تصل هيا إلى القاهرة من أمريكا، وترتب نزوحهم للقاهرة، ثم تنهي إجراءات سفرهم للسعودية.

واعتمدت في خطتها على علاقات صديق جارها السوداني في أمريكا الواسعة في الجزيرة، تحكي: “اتفق صديق جاري مع أحد الأشخاص النافذين في ولاية الجزيرة، على تأمين دخوله وخروجه من “ود مدني” دون أن تلتفت إليه قوات الجنجويد المنتشرة والمسيطرة على الولاية، مقابل مبلغ مالي كبير، وكانت الخطة أن يتنكر الرجل في زي حمال يقود عربة كارو، ويصل بها إلي منزل والدي، ويقنعه بالخروج، ويدبر خروج شقيقتي وزوجها”.

رحلة نزوح سرية على عربة كارو

مسار رحلة هروب والد الدكتورة سارة، لم يكن سهلا، وأسرته كانت في تمركزات عسكرية لقوات الجنجويد، وأخرى لعصابات مسلحة تسمى “النيجرز”، بحسب قوله: “بدأت الرحلة بخروجهم من المدينة فوق عربة كارو، تنقلوا بها ليوم ونصف عبر المدن، وكانوا يتوقفون في نقاط متفق عليها بحسب ترتيبات الرجل المدبر لخروجهم، وفي كل نقطة كان يلتقي بأحد الرجال الذي يطلعه على كلمة سر للعبور إلى النقطة التالية، حتى وصلوا إلى منطقة “الخياري” الحدودية في الوسط بين “مدني” و”القضارف”، قبلها في اتجاه “مدني”، حدود سيطرة ونفوذ “الجنجويد”، وبعدها في اتجاه “القضارف” حدود سيطرة ونفوذ الجيش السوداني”.

تسجيل صوتي لشهادة د.سارة على عن رحلة هروب والدها من الجزيرة

كان في استقبال الذين نجوا ونجحوا في الفرار من الموت في الجزيرة نزوحًا إلى (القضارف، النيل الأزرق، النيل الأبيض، كسلا) فريق من الاختصاصيين النفسيين المتطوعين في مبادرة “تلقانا سند” لدعم المتضررين نفسيًا من الانتهاكات والجرائم البشعة التي حدثت لهم، أو شاهدوها خلال عزلتهم التامة عن العالم بعد قطع الاتصالات والإنترنت في الجزيرة-بحسب قول مجاهد-.

يقول:”توزع المتطوعون على مراكز الإيواء في شرق السودان، لتقديم الدعم النفسي للنازحين المصابين بصدمات ما بعد الحرب، والهيستريا، في ظل غياب الأدوية النفسية المساعدة لجلسات الدعم النفسي”.

تشير بيانات مبادرة “تلقانا سند” للدعم النفسي للنازحيين في السودان، وما تحويه من أرقام إلى وضع أمني وصحي وطبي وغذائي متدهور في السودان، ومتصاعد إلى مدى غير نهائي، مما يحذر من استحالة العودة إلى السودان، حتى وإن كانت إلى الولايات الآمنة بعيدًا عن الصراع، وبعد رحلة طويلة من البحث والتحقق وتوثيق الشهادات، قررنا أن نسترجع معطيات المعادلة الصعبة التي تقف أمامها وناسة، ورجعنا للتواصل معها في نهاية يناير 2024.

وناسة.. نهاية مفتوحة

غادرت “وناسة” المملكة العربية السعودية في يناير الماضي، وكنا على تواصل معها خلال رحلتها إلي السودان، وفور وصولها بساعات فقدنا التواصل معها، وإلى الآن، لم نعرف عنها شيئًا، وما زال البحث مستمر عن “وناسة”.