لا يختلف الكثيرون، على أن صفحة يوليو في التاريخ المصري والعربي صفحة مهمة، ولكن لا زال هناك خلاف على تقييم مضمون هذه الصفحة، وهل ستبقي حاضرة معنا لقرون قادمة، كما حدث مع ثورات كبرى في التاريخ الإنساني (الثورة الفرنسية وغيرها) أو سيطويها الزمن، وستصبح صفحة منسية مع الوقت.
والحقيقة أن النقاش حول يوليو ترك الحدث الكبي،ر وأسقط موقفه من العصور التالية وتحديدا العصر الحالي على ثورة يوليو، واعتبر كل النظم التي جاءت أعقاب يوليو “حكم عسكري”، وأن مشاكل مصر الحالية؛ سببها صفحة يوليو المطلوب شطبها أو طمسها من تاريخ مصر؛ لأنها “أم المشاكل”.
والحقيقة أن بقاء صفحة يوليو واستمرارها معنا، يرجع لكونها نظام ومشروع سياسي، وبالتالي فإن مساوئ النظام لم تلغ أهمية المشروع.
وقد قامت ثورة يوليو أعقاب فشل حزب الوطنية المصرية الأكبر أي الوفد في تحقيق الاستقلال، بعد أن تآمرت عليه قوى كثيرة، جعلته يصل للحكم أقل من 7 سنوات غير متصلة في الفترة ما بين ثورة ،1919 وحتى ثورة 1952 رغم شعبيته الجارفة.
المصريون في مجملهم دعموا مبادئ يوليو ومشروعها، لأن كل مصري وطني عاش في تلك الفترة، كانت أولوياته تحقيق الاستقلال وخروج المستعمر، فحققت له يوليو الاستقلال الوطني، وأعلنت الجمهورية التي أصبحت مصدر شرعية نظامنا السياسي، ثم قاد عبد الناصر معارك التحرر الوطني، وتبنى الوحدة العربية، وأمم قناة السويس، وبنى قاعدة صناعية كبرى، وأسس لنهضة ثقافية كبيرة.
ولذا يجب تقييم ثورة يوليو بوضعها في سياقها التاريخي بأولوياته السياسية والاجتماعية، وهو ما جعلها تصمم نظام سياسي مخالف للنظام شبه الليبرالي في العهد الملكي الذي عجز عن تحقيق الاستقلال الوطني، فتم حل الأحزاب ليس فقط لأن يوليو تبنت نظام الحزب الواحد، إنما أيضا لأن هذه الأحزاب عجزت عن تحقيق الاستقلال الوطني، بما فيها درة الحركة الوطنية المصرية (حزب الوفد)، كما أن بعضها تواطئ تارة مع القصر وتارة مع الاحتلال، وتم إسقاط الدستور الذي لم يُحترم كثيرا إبّان العهد الملكي، وأحل مكانه نظام يوليو شرعية ثورية لا دستورية ولا ديمقراطية.
صفحة يوليو لم تكن كلها وردية، كما يصورها البعض ولا كلها سواد، كما يتحدث عنها البعض الآخر، فعبد الناصر مسئول عن هزيمة 67، حتى لو اعترف بمسئوليته عنها واستقال، ومسئول عن تجاوزات أمنية، حاول أن يصححها متأخرا، ومسئول أيضا عن التوسع في التأميم، حتى طال قطاعات غير استراتيجية، لم يكن مطلوب تأميمها، ولذا مطلوب أن تميز مجتمعاتنا بين قيم ومبادئ أي تجربة تاريخية، وعلي رأسها ثورة يوليو، أي مبادئ التحرر الوطني والمساواة بين الشعوب والعدالة والنظام الجمهوري والدولة الوطنية والدستور المدني، وبين أدواتها ووسائلها التي هي محل نقد ومتغيرة.
الجانب الآخر في التعامل مع “صفحة يوليو”، هي تلك العقدة الموجودة في نفوس البعض حول “حكم العسكر”، والتي يرددها لأسباب أيدويولوجية أحيانا، أو تحيزات سياسية أحيان أخرى، ويعتبر ما جرى ليله 23 يوليو، هو انقلاب عسكري قاده ضباط مغامرين مثلهم مثل تجارب أخرى، تكررت في المنطقة العربية، وفي كثير من دول أمريكا الجنوبية والعالم.
والحقيقة ان جمال عبد الناصر ورفاقه الأحرار، امتلكوا خبرة فريدة، شكلت وعيهم بصورة استثنائية مقارنه بكل قادة الانقلابات العسكرية، وجعلت شابا في منتصف الثلاثينات من عمره مثل، عبد الناصر يقدم على إنشاء تنظيم سياسي ثوري، يخترق به الجيش سمي بالضباط الأحرار، ضاربا القواعد المتعارف عليها في أي مؤسسة عسكرية منضبطة، لا تقبل، بل ولا تتسامح مع أي تنظيمات سرية، تخترق صفوفها، وتعامل الرجل مع قوى سياسية متعددة من شيوعيين وليبراليين وإخوان مسلمين، وبلغ عدد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار حوالي 300 عضو من عناصر الجيش المصري، انخرطوا في عمل سري مثل كثير من النشطاء والسياسيين، وقروا تغيير نظام الحكم وبناء نظام جديد، وهو أمر، يختلف جذريا من حيث الطبيعة عن تجارب أخرى، يصدر فيها القادة العسكريون أوامرهم للجنود والضباط بالانقلاب على السلطة القائمة؛ فينفذوها وفق قواعد عمل أي مؤسسة عسكرية.
صحيح هناك بعض التيارات في العالم العربي، لديها “عقده نفسية” من البدلة العسكرية، وتدين من يرتديها ظالما أو مظلوما، وتعتبر أن ناصر الثائر الذي أسس تنظيم سري، وامتلك ثقافة مدنية عميقة، لمجرد إنه كان ضابط، فهذا يعني إنه “عسكر” ومعدوم الخبرة السياسية والثقافة المدنية.
يقينا،خبرات عبد الناصر وتكوينه السياسي، لا يعطيه أي حصانة خاصة، تحول دون نقد تجربته وأخطائه، إنما تعطينا مساحة للفهم والنقد البناء الذي يصنع المستقبل، فعبد الناصر لم يكن نظامه عسكريا، إنما كان حكما مدنيا تقدميا غير ديمقراطيا، وهو هنا أقرب لكثير من النظم الاشتراكية التحررية التي عرفتها دول العالم الثالث، من حيث التنظيم السياسي الواحد وغياب الديمقراطية، وإعطاء الأولية للعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني على حساب المبادئ الليبرالية والديمقراطية.
ستبقى قيمة صفحة يوليو وحضورها في التاريخ، ،ليس بسبب الخلاف حول كثرة أو قلة أخطائها إنما لإنها حملت مشروع سياسي قام على التحرر والاستقلال الوطني الذي ناضلت من أجلة معظم دول الجنوب والعالم الثالث، أما أخطاؤها فهي كثيرة، ونظامها السياسي غير ملهم على عكس مشروعها السياسي الملهم متمثل في الاستقلال الوطني العدالة التنمية والإيمان والرهان على حركة الشعوب، وهو الذي يجعل الصراخ و”تقطيع الهدوم” حول صفحة يوليو، لا قيمة تذكر له؛ لأنها في الحقيقة، لم تكن مجرد نظام، سيختفي بالسباب أو ينتشر بالمديح، إنما كانت مشروع سياسي، لا زالت قيمه ومبادؤه ملهمة لمصر والعالم العربي، ولذا لن نندهش في فهم سر بقاء الثورة الفرنسية التي عرفت نظام، فيه قتل ومقصلة وانتكاس عن مبادئ الثورة، ولكنها عرفت أيضا مبادئ عابرة للزمن فسقط نظام الثورة الفرنسية، وبقيت مبادؤها قي الحرية والمساواة والإخاء.