رغم ما يبدو، ظاهرياً، من ارتباك أو تباين في أوساط رسمية وسياسية في إيران من أحداث غزة، لا سيما مع خفوت النبرة السياسية أحياناً، كما هو الحال مع امتعاض المرشد الإيراني، علي خامنئي، الذي طالب رئيس المكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، بـإسكات المطالبين بانخراط إيران وحزب الله في الحرب، إلا أن هذا كله ليس جديداً في الحالة السياسية الإيرانية، وله مماثل وسوابق عديدة.

إذ إن إيران التي تؤدي أدوراً ميدانية وسياسية مباشرة في سوريا وتقع ضمن أولوياتها الاستراتيجية، وفي مربعها الطائفي “الهلال الشيعي”، بينما تتحرى فرض هيمنتها الأيدولوجية، تتباين حولها الآراء. وثمة اتجاهات داخل النخبة الحاكمة تطالب بالتعويض عن نفقات الحرب بسوريا التي بلغت حتى عام 2020 نحو 20 إلى 30 مليار دولار، وفق ما ذكر عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، حشمت الله فلاح بيشة.

كما أن المرشد الإيراني عام 2011، أعلن في بيان رسمي، للمرة الأولى، عن ضلوع إيران “الصراعات المناهضة لإسرائيل”، ومنها حرب الـ” 33 يوماً” وكان يقصد الإشارة لحرب تموز (يوليو) عام 2006 بين حزب الله وإسرائيل. وهذا الاعتراف العلني الأول من نوعه عن وجود دعم إيراني لوكيلها المحلي في لبنان. ووفق البيان ذاته، فقد كشف خامنئي عن امتداد الدعم الإيراني للصراع في غزة بين عامي 2008 و2009.

وتابع خامنئي: “من الآن فصاعداً، أينما تحارب أي دولة أو مجموعة النظام الصهيوني، فإننا نقف إلى جانبهم بشكل لا لبس فيه، ونقدم دعمنا الثابت، وليس لدينا أي مخاوف بشأن قول ذلك”.

والمسافة بين الخطابات التعبوية الإيرانية والسياسات المنضبطة عملياً، تؤشر إلى محالات براغماتية لتحويل الصراع في حدوده وبين أطرافه، سواء المباشرين أو الوكلاء، وفي درجاته مع الأطراف المختلفة الفاعلة، إلى أداة كسب سياسي وتحقيق مفاوضات ورهانات جديدة للقوى الإقليمية بالمنطقة.

فتحركات وكلاء إيران بالمنطقة إنما يعزز من فرص استثمارها الصراع في غزة لحساب مصالحها، تحديدا الضغط على القواعد الأميركية في سوريا والعراق، وقد تلقت القوات الأميركية في مناطق تواجدها حول منابع النفط بشمال سوريا عدة ضربات مؤثرة، وهي المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الكردية ودعم التحالف الدولي، فضلاً عن استهداف مصالحها في إقليم كردستان العراق، وبوجه خاص استهداف السفارة بالمنطقة الخضراء ببغداد.

بالتالي، تتحرى طهران بعث إشارات سياسية لقبض ثمن عدم التعصيد والتفاوض بل ولعب دور الوساطة.

ففي نهاية تشرين الأول (أكتوبر) كشف وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عن تلقي طهران رسالتين من واشنطن بأنها لا تنوي توسيع دائرة الحرب، وتطالب طهران بضبط النفس. وقال عبد اللهيان إن طهران لا تسعى لتوسيع دائرة الحرب في المنطقة.

ومع هذا الخطاب السياسي البراغماتي لوزير الخارجية الإيراني، جاءت تحذيرات لافتة من الرئيس السابق لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) غلام علي حداد عادل، المعروف بأنه ضمن  دوائر للمرشد الإيراني المقربة، بعدم السقوط في قاع الحرب بغزة حيث إن “إسرائيل تهدف إلى تحويل الصراع في غزة إلى حرب بين إيران والولايات المتحدة”.

بل إن إحدى الهيئات النافذة بإيران كمجمع تشخيص مصلحة النظام والذي يعين أعضاؤه المرشد الإيراني، تبنى الموقف ذاته، واعتبر تورط إيران بالحرب فائدة “للنظام الصهيوني”.

وهنا، ليس مباغتا أن يصرح القائم بالأعمال الإيراني لدى بريطانيا مهدي حسيني متين، مؤخراً، أن أولوية إيران في غزة هي وقف إطلاق النار، بما يجعل الموقف الرسمي لطهران يتوافق إلى حد كبير مع الإجماع العربي.

إذاً، توقيت الإعلان عن الدور وتعيين موقع إيران من الأحداث بالمنطقة يكشف عن كمون تكتيكي لاعتبارات استراتيجية. وهذا ما يمكن فهمه في سياق الحرب التي اندلعت بعد هجمات حماس المباغتة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. فالجسم الإيراني في هذه الأحداث لا يمكن إخفاؤه أو التعمية عن وجوده، بداية من السياسي ممثلا في الزيارات المتكررة لوزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان إلى لبنان وسوريا، بل واستهداف مطاري دمشق واللاذقية بمسيرات إسرائيلية في إحدى تلك الزيارات، والإشارة إلى منع نزول طائرة تحمل معدات وأسلحة للميلشيات الإيرانية، ومروراً بنشاط القوى الولائية المسلحة التابعة للحرس الثوري التي تطوق المنطقة في اليمن والعراق، وحتى “غرفة العمليات المشتركة” التي تتواجد بها قيادات إيرانية وفلسطينية وعراقية ويمنية.

فضلا عن إشارة لافتة أمست تتردد همساً بوجود خلافات بين جناحي حركة حماس السياسي والعسكري على خلفية تبعية الأخيرة لإيران، وارتهان قرار “القسام” بـ”الولي الفقيه”. فيما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، أن الخلافات احتدمت بشأن اليوم التالي لبعد الحرب حيث يتفاوض الجناح السياسي مع حركة فتح بخصوص الحكم في الضفة والقطاع، الأمر الذي فاقم الخلاف مع الجناح العسكري، والذي يباشر عملياته الميدانية والعسكرية وأوضاعه تبدو قلقه وغير مستقرة. وقد نقلت الصحيفة الأميركية عن عضو المكتب السياسي لحماس، حسام بدران: “نحن لا نقاتل لمجرد أننا نريد القتال (..) لسنا من أنصار لعبة محصلتها صفر”، وقال: “نريد أن تنتهي الحرب”.

وقالت “وول ستريت جورنال” إن “الانقسامات” بين المكتب السياسي للحركة في قطر، ومسؤوليها داخل غزة، “ارتفعت حدتها منذ بدء الحرب”. بل إنها “خلقت توترات مع يحيى السنوار، رئيس الجناح العسكري لحركة حماس، المتمركز في غزة”.

سياسة إيران التي تباعد كل الشبهات عنها بخصوص وجود دور مباشر لها، ومن ثم استبعاد توسيع نطاق الحرب أبعد من غزة، هي استراتيجية التوازن الدقيق، بحيث تجعل كل الأجسام العسكرية لها بالمنطقة تصنع التوتير المطلوب وفي صراع منخفض لا يعطي مبررات للتصعيد المتفلت.

وتعتمد طهران على وكلائها من دون التورط في الحرب بشكل تام، وهي سياسة دفاعية أكثر منها هجومية. ويمكن القول إن الجبهة المباشرة لإيران مع إسرائيل، هي الجنوب اللبناني التي تبدو الأفعال العسكرية فيها بين حزب الله وإسرائيل لا تتخطى قواعد الاشتباك القديمة والتقليدية، لا سيما أن الطرفان على دراية تامة أن خوض حربا مباشرة ليس في صالح أي منهما.

فحرب إقليمية متعددة الجبهات سيضع تل أبيب في ظل ظروفها وقدراتها أمام معضلة أمنية وعسكرية من دون أفق ونتيجة.

كما أن الحزب المدعوم من إيران ليس بمقدوره فتح الجبهة في ظل أوضاع لبنان مع الفراغ الرئاسي والوضع الاقتصادي الذي يلامس حواف الإفلاس. ناهيك عن تململ قواعد الحزب وتآكل حواضنه التي ترفض أي حرب جديدة تفاقم من الأوضاع الصعبة والتي بلغت ذروة تعقيداتها مع انخراط الحزب في الحرب السورية، أو قد تؤدي إلى نزوح من قرى ومدن الجنوب إلى بيروت التي باتت على حافة حرب أهلية بين قوى طائفية عديدة متحفزة ضد حزب الله.

ومن بين التحركات اللافتة التي تجري في لبنان على تخوم تلك الحرب، وتكشف عن توظيف الصراع في غزة لحسابات أبعد من اللحظة المؤقتة، راهنا، هي إدارة مشروع تدشين “طلائع طوفان الأقصى”.

تشكيل “الطلائع” بات أمرا نهائيا مع الأخذ في الاعتبار أن هناك مسعى ليكون عبارة عن تكتل سياسي أكثر منه عسكري في البداية، بحيث يتفادى الكيان الجديد المعارضة من القوى اللبنانية المعادية لحزب الله ومحور ما يعرف بـ”المقاومة”.

و”طلائع طوفان الأقصى” سيكون عبارة عن تنظيمين؛ أحدهما له طابع شعبي جماهيري يستقطب كافة الفئات التي تضخمت مشاعرها بفعل الأحداث في غزة، ثم يتم الفرز لتشكيل “نخبة” على مهل وهي نخبة سنية بالأساس لها دور ومهام عسكرية. فيما سيتولى هذا الأمر “قادة عسكريين لهم القدرة على التصنيف والفرز داخل المخيمات الفلسطينية وعلى دراية بالشباب جيداً في هذه المناطق وما حولها ولديهم القدرة على الاستقطاب والكسب بالمعنى الحزبي فضلا عن تلقي ترشيحات ذات مصداقية”. وفق مصدر سياسي لبناني.

والجزء الأول الخاص بتأسيس الطلائع يبدو متحققاً وناجزاً. والشريحة الأولى من شباب المخيمات الفلسطينية بلبنان، تحديدا مخيم عين الحلوة، فد جرى تعبئة المئات منهم بالفعل، بحسب المصدر البناني لـ”مصر 360″ (فضل عدم ذكر اسمه) مرجحا أن هناك حوالي ثلاثة آلاف متطوع في قوائم حركة حماس والجماعة الإسلامية وحركة أمل وحزب الله لمراجعتها وإدارة شؤونها.

لكن لم يتم الإعلان عن أي من تلك الخطوة لتفادي الاستفزازات بين دوائر عديدة اجتمعت ضد الفكرة حتى من داخل القوى المتحالفة مع الحزب وتحديدا التيار الوطني الحر.

القوى الأمنية وتحديداً الجيش اللبناني رفع تقاريره إلى أطراف دولية تحديداً فرنسا والولايات المتحدة، بأن لديه معلومات موثقة حول وجود خطوات متقدمة بهدف إنشاء هذا الكيان الجديد، وهو جسم عسكري لا محالة وأن الخطوة تنذر باحتمالية تفاقم الوضع الأمني بلبنان، وفق المصدر ذاته. بل إنه يجعل المنطقة على الحافة تلك المرة. حيث لن تنشغل لبنان بساحتها المشتعلة إنما ستكون النيران ملامسة للحدود وعمق بلدان أخرى في ظل الترابط العنيف بين وكلاء إيران في البحر الأحمر من خلال الحوثي أو قوى مماثلة في العراق.

في المحصلة، نحن أمام قوى عسكرية أيدولوجية وسياسية نخبوية (متجاوزة الطائفية وخليط سني شيعي لبناني وفلسطيني) جديدة لها صلات عميقة وأمنية مع حزب الله وبطبيعة الحال إيران. وينبغي قراءة هذا المشهد الجديد الذي يتشكل في أطواره الأولى على أنه من ترتيبات طهران بواسطها وكيلها اللبناني (حزب الله) لليوم التالي بعد الحرب، وفق المصدر ذاته، وهي ورقة جديدة ستمنح الحزب فرصة التفاوض مع الغرب والولايات المتجدة باعتباره بات وحده ومنفردا يملك أمن الجنوب (وأمن إسرائيل).

فكرة تسجيل متطوعين ضد إسرائيل واستثمار وتوظيف الحالة التعبوية المكثفة المصنوعة في إعلام إيران والمحسوبين على تيار “الممانعة” و”المقاومة” تعمل منذ وقت مبكر في لبنان كما في غيرها. ويتولى هذا الأمر “القيادي بالحرس الثوري الإيراني محمد رضا فلاح زاده الموجود في لبنان ضمن “غرفة العمليات” الخاصة التي تتابع الحرب بين حماس وإسرائيل والقيادي بالإخوان المسلمين في العراق رشيد العزاوي وهو حلقة وصل لارتباطاته المهمة والقديمة بالحرس الثوري بين القوى السنية والميلشيات الولائية التابعة لطهران”. يقول المصدر.

ويشير المصدر إلى أن هناك لقاءات جرت بين رشيد العزاوي ومحمد رضا فلاح زاده من جهة مع مسؤول العلاقات الدولية بحركة حماس المقيم في لبنان أسامة حمدان، خلال النصف الأول من الشهر الحالي. وتم اللقاء في بيروت بوجود قادة من حركة أمل. وتم مناقشة تشكيل “طلائع طوفان الأقصى” ومدى إمكانية تفعيل دور المكون السني في لبنان وإقليمياً بإدارة إيرانية. وفي ما يخص لبنان، يجري التنسيق يجري مع “الحزب” في الجنوب لتوسيع دائرة الأهداف والمخططات وسيتم الاعتماد على شباب المخيمات المتحمس لزيادة وتيرة الصعود. أما في العراق فالأمر سيبدو مختلفا من خلال تعويض السنة بحصص في الانتخابات والاستحقاقات السياسية.

واستكمالا لهذه اللقاءات والمشاورات والترتيبات، جاء اجتماع علني لرئيس المكتب السياسي للجماعة الإسلامية في لبنان، علي أبو ياسين، ورئيس المكتب السياسي لحركة أمل، جميل الحايك، في منطقة بئر حسن، بهدف بعث إشارات واضحة للقوى السياسية اللبنانية، بأن هناك اصطفافات تجري رغم الضغوط. لكن الرهان الآن أن فرصة أحداث ما يجري في غزة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) لا يمكن تفويتها مطلقا، إنما ينبغي أن تكون هدفا لقوى “المقاومة” السنية والشيعية (بناء بدائل وتعزيز مبادئ محور المقاومة وإبقاء جبهة مرشحة للتوتير طوال الوقت). كما أن وجود 230 ألف لاجئ في لبنان من الفلسطينيين يتعين أن تكون تبعيتهم النهائية لـ”المقاومة” وإزاحة فتح تماما.

غرفة عمليات المقاومة في لبنان حاليا تخضع لترتيبات استراتيجية جديدة بخصوص المواجهة مع إسرائيل. فالاعتماد، وفق الرؤية الإيرانية والتي أكد عليها الوزير حسين أمير عبد اللهيان مع قادة وعناصر الفصائل، سيكون على الحوثي والمقاومة الإسلامية بالعراق ثم بدرجة أقل على الجبهة السورية. فالعراق واليمن هما الأولوية الآن لإرباك إسرائيل والولايات المتحدة، لا سيما أن التباين وطول المسافة من الناحية الجغرافية سيوفر لهما ضمانات للحماية الأمنية بدرجة كبيرة. الأمر الذي سيشكل أعباء على القوات الإسرائيلية وكذا القواعد الأميركية بالمنطقة مع الأخذ في الاعتبار أن واشنطن سوف تضطر إلى تخفيض المواجهة والانسحاب أو التهدئة أمام التصعيد من الولائيين.

تهدف طهران من خلال هذه التحركات، وفق المصدر السياسي اللبناني، إلى تقليص تام أو إنهاء وجود ما تبقى من قواعد وقوات أميركية بالمنطقة، وبالشكل الذي يؤثر على مصالح إيران وتحديدا الغاز في حقل كونوكو والتنف بشمال شرق سوريا، ووقف الضرب على منطقتي الميادين والبوكمال لموقعيهما الجيوسياسي للفصائل على الحدود السورية العراقية، وتوافر النفط فيهما بشكل كبير.

كما أن منطقة دير الزور التي تتواجد فيها مدينة الميادين والبوكمال بهما مصانع للمسيرات الإيرانية وتجري فيها لقاءات تدريبية على صناعة المتفجرات والمسيرات المحلية الإيرانية بالإضافة لتدريب المراهقين من محافظات أخرى وإعدادهم ميدانيا وعقائديا.

ويقول المصدر إن هناك فرصة لتنظيم الحوثي، تحديدا الذي أبلغ السعودية باستئناف الحوار والتفاوض للضغط من خلال هذه الهجمات على التحالف بقيادة الرياض، وتوسيع هيمنتهم على المناطق الجنوبية، وهي الفرصة الممكنة الآن مع استغلال نقطة الضعف الأميركية بشأن رغبتها في عدم الانخراط في حرب إقليمية واسعة وتأثيرات ذلك على السعودية بوجه خاص. كما أن الحوثي بحاجة لتعزيز نفوذه وسيطرته بعد تنامي انتقادات محلية ضده وتخويفه خارجيا بالتطبيع مع تل أبيب.