كتب: محمد سيد أحمد وإيمان رشدي

حكم هو الأول من نوعه، يفتح الباب ليس فقط لوقف مخالفات الشركات والمصانع لقانون البيئة، و”تهاونهم” مع اشتراطاته، بل يؤكد قبلها حق المواطن المصري في “بيئة نظيفة”.

يمثل حكم محكمة استئناف الإسكندرية بتعويض قيمته مليون جنيه لصالح أحد سكان منطقة وادى القمر وطفله، لتضررهما من نشاط شركة الإسكندرية لأسمنت بورتلاند “تيتان للأسمنت”، شروعا في مرحلة جديدة في علاقة الشركات العملاقة، والمتوسطة ببيئتها المحيطة، وبقانون البيئة واشتراطاته الخاصة باستخدام الفحم وتخزينه، وكيفية التعامل مع كل مادة، يمكن أن تسبب ضررا بيئيا، أو صحيا لسكان المناطق المحيطة، من خلال إثبات علاقة السببية بين أخطاء تلك الشركات، والأضرار الناجمة عنها بعد سنوات من غياب الجزم بتلك العلاقة في تقارير الطب الشرعي.

الحكم حصلت عليه الوحدة القانونية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، انطلاقا من مخالفة قرار رئيس الوزراء بشأن استخدام الفحم كوقود بديل للغاز الطبيعي، و التعديل الوارد بالقسم الثالث من قرار رئيس الوزراء رقم 964 لسنة 2015، والخاص بالتصريح باستخدام الفحم بالمناطق السكنية للمنشآت الصناعية القائمة قبل صدور هذه اللائحة، وذلك في حالات الضرورة والصالح العام،  مخالفة هذين القرارين للمواد الدستورية رقم ( 46 \ 78 \ 18 )، والتي تنص علي الحق في بيئة صحية آمنة، ومسكن صحي  آمن، والحق في الصحة وكلها حقوق لصيقة بشخص الإنسان.

محطات على طريق التلوث

قبل الانتقال إلى تفاصيل قضية تيتان، يمكننا رصد دأب العديد من شركات الأسمنت في مصر خلال السنوات الأخيرة على مخالفة البيئة، فيما يتعلق بالتلوث.

في عام 2012، رصدت وزارة البيئة 55 مخالفة لشركات أسمنت، ومسابك وصناعة الفواخير، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية ضد المخالفين حينها.

حتى شركة تيتان، التي صدر ضدها الحكم القضائي في وحدتها بالإسكندرية، شرعت في استخدم الفحم في مصنعها ببني سويف.

وكذا الشركة العربية للأسمنت بالسويس، دون حصولهما على موافقة وزارة البيئة، بعدما رصد التفتيش الدوري على المنشآت الصناعية وجود أعمال حفر، وقواعد لإنشاء طاحونتين لوقود الفحم، دون موافقة جهاز شؤون البيئة.

تكرر الأمر مع شركة لافارج الفرنسية التي استوردت الفحم في بداية عام 2014، دون انتظار صدور قرار رسمي من الحكومة المصرية، وخالفت نص المادة 19 من قانون البيئة الصادر عام 1994، التي تنص على ضرورة تقديم دراسة أثر بيئي للمشروع للجهة الإدارية المختصة قبل البدء فيه للترخيص لتنفيذه.

يرتكز احتجاج شركات الأسمنت، وغالبيتها العظمى أجنبية، على قرار صدر عام 2014، يسمح باستخدام الفحم في إنتاج الأسمنت، لكنها تتغافل الاشتراطات البيئية الملحقة بالقرار.

أهم هذه الملحقات إخطار جهاز شئون البيئة بالمحافظة بكل شحنة، تصل للميناء وانتقال فريق من الجهاز للمشاركة في مراقبة تفريغ الشحنة ونقلها إلى المصنع، وتوثيق أي مخالفات بالشحنة واتخاذ الإجراءات القانونية ضد أي مخالفة.

وفقًا لشعبة الأسمنت باتحاد الصناعات المصرية، فإن مصانع الإسمنت المحلية تستهلك ما بين 7 و8 ملايين طن سنويًا من الفحم، يتم استيرادها بالكامل عبر القطاع الخاص، وتوجد 19 شركة تعمل بالكامل بالفحم باستثناء خط إنتاج وحيد داخل إحدى الشركات.

بالعودة الي حكم التعويض الذي فرضته المحكمة على تيتان، والذي ينتظر عشرة أفراد غير صاحبه أحكاما مماثلة، وتعويضات من الشركة ذاتها، وهم من قاطني منطقة وادي القمر المتضررين من إخلال الشركة بشروط استخدام الفحم كوقود بديل للغاز الطبيعي منذ عام 2015، وبالقرب من منطقة سكنية كثيفة، إذ لا تبعد عنها وحدة حرق الفحم التابعة بالشركة إلا لمسافة عشرة أمتار، بالمخالفة لمعايير واشتراطات الفحم الواردة في قانون البيئة ولائحته التنفيذية.

الحكم بالغرامة، استند إلى حجية الحكم النهائي البات، الذي حصلت علية المبادرة المصرية للحقوق الشخصية من محكمة النقض بمسئولية الشركة، وثبوت خطئها بسبب:

1 –  عدم اتخاذ التدابير والاحتياطات لإنتاج المواد الخطرة في صورة سائلة أو صلبة.

2 – ثبوت خطأ الشركة متمثلة في رئيس مجلس إدارتها بصفته، كونه لم يتخذ الاحتياطات اللازمة؛ لعدم تسرب ملوثات الهواء أو تقليل كميتها.

3 – تسبب خطأه (رئيس مجلس إدارة الشركة) في إصابة المجني عليهم؛ نتيجة للإهمال وعدم مراعاة القوانين واللوائح.

وبدورها استندت محكمة النقض في حكمها على الأسانيد القانونية التالية:

أولا: خالف مصنع أسمنت تيتان معايير واشتراطات الفحم الوارد في قانون البيئة ولائحته التنفيذية بموجب قرار رئيس الوزراء رقم 618 لسنة 2017

حيث تم استخدام الفحم بالقرب من منطقة وادي القمر السكنية غرب الإسكندرية، والتي تبعد عن وحدة حرق الفحم بمسافة 10 أمتار فقط، وذلك بالمخالفة للمادة الرابعة، البند رقم (1) من القرار السابق، والذي اشترط “أن تبعد محطات تخزين الفحم عن أي تجمع سكني مسافة لا تقل عن 3 كيلومترات، ويجوز لدواعي الضرورة التي يقرها جهاز شؤون البيئة مع الجهات المعنية تعديل هذه المسافة، بما يسمح بإنشاء محطات تخزين مغلقة على مسافة 1500 متر وفقا لظروف وطبيعة كل منطقة”

بالإضافة للفقرة (ى) من البند رقم 9 الخاص باشتراطات التخزين داخل المصانع.

“يجوز تخزين الفحم في مخازن تحت سطح الأرض، على أن يتم ذلك وفقا للضوابط، والاشتراطات التي يضعها جهاز شؤون البيئة، ويصدر بها قرار من الرئيس التنفيذي للجهاز”.

ثانيا: تسبب عدم اتخاذ المصنع الاحتياطات اللازمة لعدم تسرب ملوثات الهواء أو تقليل كميتها إلى نتيجة حتمية، وهي تلوث الهواء، ليترتب على إثر ذلك ضرر صحي للضحايا

وفقا للبند رقم (10) من المادة الأولى من قانون البيئة رقم 9 لسنة 2009، والذي ذكر تعريف تلوث الهواء، بأنه “كل تغير في خصائص ومواصفات الهواء الطبيعي، يترتب علية خطر على صحة الإنسان أو على البيئة، سواء كان هذا التلوث؛ ناتجا عن عوامل طبيعية أو نشاط إنساني، بما في ذلك الضوضاء والروائح الكريهة”.

أثبت الكشف الطبي على الضحايا، أن انبعاثات المصنع؛ بسبب استخدام الفحم؛ سببت تلوث الهواء وفقا للتعريف السابق؛ بسبب خطأ رئيس مجلس إدارة الشركة بعدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة؛ لمنع تسرب ملوثات الهواء أو تقليل كميتها، ومما أثبت ذلك، أن جهاز شئون البيئة حين قام في أغسطس 2015، بالتفتيش علي المصنع، وجد ارتفاع بنسبة الملوثات؛ ليأتي ذلك مخالفة لما ورد بالبند رقم ( 5 ) من المادة الرابعة من قرار رئيس الوزراء رقم 618 لسنة 2017، حيث ورد فيه آلية لمنع تلوث الهواء، تنص علي أنه “يجب تركيب أنظمة رش مواد كميائية أو مياه، تعمل علي ثبيت الأتربة على أكوام الفحم السائب؛ لمنع تطاير أتربته، وضمان نسبة رطوبة كافية في تلك الأكوام من 10 % الي 15%”.

ثالثا: ثبوت نص المادة رقم 244 من قانون العقوبات رقم 185 لسنة 2023 على تلك الواقعة

حيث نصت على “من تسبب خطأ في جرح شخص أو ايذائه، بأن كان ذلك ناشئا عن إهماله أو رعونته أو عدم احترازه، أو عدم مراعاته للقوانين والقرارات واللوائح والأنظمة، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة، وبغرامة لا تتجاوز مائتي جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.

حيث أثبت تقرير الطب الشرعي بعد الكشف على الضحية وطفله، إصابتهما بالتهابات بالرئتين وحساسية الصدر، وهي أمراض مزمنة، تنشأ عادة بسبب التعرض لملوث هوائي.

وسبق أن قضت محكمة استئناف الإسكندرية في نوفمبر 2023، بتعويض هناء عبد اللطيف، أحد سكان وادي القمر أيضًا بمبلغ 750 ألف جنيه؛ لإصابتها بتليف رئوي؛ جراء نشاط الشركة التي قدمت استشكالاً؛ لوقف التنفيذ رفضته محكمة مغايرة؛ لتعاود الضحية مرة أخرى السير في إجراءات تنفيذ الحكم، كما قضت استئناف الإسكندرية أيضًا في يناير الجاري بتعويض السيد سعيد عبده، أحد المجني عليهم، ونجليه بمبلغ 120 ألف جنيه للأسباب ذاتها.

هل سيدفع الحكم السابق شركات الأسمنت لتقليل الاعتماد على الفحم، أم ستستمر في استخدامه مع بذل جهد أكبر في السيطرة على الأضرار المحتملة؟.

في نوفمبر الماضي، ألزمت وزارة الدولة لشؤون البيئة شركات الأسمنت تقليل استخدام الفحم، بما لا يتجاوز 10% من خليط الطاقة المستخدم، ووفرت قروضا ميسرة للتحول لاستخدام الطاقة البديلة.

ووضعت الوزارة بديلاً هو زيادة استخدام وقود “RDF” بنسبة، لا تقل عن %15 من إجمالي الطاقة المستهلكة، مع تكليف جهاز شئون البيئة ووحدة تراخيص الفحم التابعة للجهاز؛ للتأكد من تطبيق القرار على كل مصانع الأسمنت التي تستخدم الفحم كوقود أساسي.

اعتراض

لكن مصانع الأسمنت عارضت هذه الخطة، وقال أحمد شيرين، رئيس شعبة الأسمنت باتحاد الصناعات المصرية، إن مصانع الأسمنت تعتمد على الفحم بنسبة 90%، مطالبا بتقليصه تدريجيًا، وتوفير بدائل من الوقود تعادل الكميات المخفضة.

ويعزو شيرين الاعتماد على الفحم بصورة كبيرة محليًا إلى ارتفاع أسعار المازوت، وتوجيه الغاز الطبيعي إلى محطات الكهرباء المحلية، وتصدير الفائض إلى أوروبا.

بينما ترى شعبة مواد البناء باتحاد الغرف التجارية، أن اعتماد صناعة الأسمنت في مصر على الفحم بشكل أساسي؛ لكونه أرخص أنواع الوقود، لخفض تكلفة الإنتاج والاستفادة من فارق السعر، عكس ما يحدث حال استهلاك الغاز والمازوت.