أسفرت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة عن تقدم ملحوظ لليمين المتطرف. فلقد حصل حزب التجمع الوطني بقيادة ماري لوبان، وإخوة إيطاليا بقيادة جيورجيا ميلوني، وحزب الحرية على أعلى الأصوات في فرنسا وإيطاليا والنمسا. أما في ألمانيا وهولندا حصلا حزب البديل من أجل ألمانيا (المعروف بميوله النازية)، وخيرت فيلدرز، على المراكز الثانية في عدد الأصوات. ولكن برغم تلك المكاسب غير المسبوقة، لم يحقق اليمين المتطرف أغلبية. فالتحالف بين يمين الوسط (الحاصل على أعلى الاصوات)، ويسار الوسط والليبراليين، ألجم اليمين المتطرف. وبالفعل انتخب البرلمان أورسولا فون دير لاين، المنتمية ليمين الوسط لولاية ثانية كرئيسة للمفوضية الأوروبية.

النقاشات في منطقتنا حول اليمين المتطرف الأوروبي كثيرا ما تدور في فلك حقوق وأوضاع المهاجرين والأقليات في أوروبا، خاصة القادمين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولكن صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية يلقي بظلاله أيضا على صفقات، وتحالفات مع النظم السياسية في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مما يؤثر على الأوضاع الداخلية الاقتصادية والسياسية في تلك البلدان. ولهذا عواقب صعود اليمين المتطرف تمتد خارج حدود القارة الأوروبية، وتنسكب الآثار السلبية لصعود اليمين المتطرف على أوضاع حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خاصة في الدول الحيوية لأوروبا مثل مصر وتونس. وبرغم هذا، فالأفق ليس حالكا، لأنه كما تأتي الديمقراطية بنتائج مباغتة يمينية مفزعة، قد تأتي أيضا بمفاجآت تقدمية سارة.

اليمين.. أوروبا ومن بعدها الطوفان

الهجرة تمثل قضية رئيسية لدول الاتحاد الأوروبي في علاقاتها مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تمثل مصدرا أساسيا للهجرة غير النظامية، ويمر بها خطوط الهجرة المؤدية لأوروبا. وإن كانت الهجرة قضية أساسية لجميع القوى الأوروبية بمختلف توجهاتهم الأيدلوجية، فهي أكثر حيوية لليمين المتطرف. يستند خطاب اليمين المتطرف الأوروبي– برغم اختلافاته الجذرية من دولة إلى أخرى- على معاداة المهاجرين؛ ليجتذب المصوتين، خاصة في ظل ظروف معيشية، تزداد صعوبة على المواطنين الأوروبيين. تقوم أحزاب اليمين المتطرف بتأطير الهجرة كمسبب للأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الدول الأوروبية مثل، التضخم وارتفاع أسعار السكن وتناقص فرص العمل وغيرها من المشكلات في الصحة والتعليم. وبناء على هذا يتهم اليمين المتطرف منافسيهم في السلطة وخارج السلطة، بأنهم يمررون أو يؤيدون سياسات تتساهل مع الهجرة تؤدي لتدفق أفواج من اللاجئين.

اهتمام الاتحاد الأوروبي بمسألة الهجرة ودور اليمين ظهر في سلسلة من الصفقات التي أبرمها الاتحاد، قبيل الانتخابات وبعدها، مع دول مجاورة للحد من الهجرة. في مارس الماضي، أبرم الاتحاد الأوروبي صفقة مع مصر بقيمة 7.4 مليارات يورو، تشمل مساعدات وقروض واستثمارات لدعم الاقتصاد المصري ومكافحة الهجرة غير النظامية، ومكافحة الإرهاب، كما أكدت رئيسة المفوضية على أهمية مصر لاستقرار المنطقة وكشريك في مجالات عدة، مثل الطاقة والتجارة والهجرة. وفي يونيو أعلنت رئيسة المفوضية، أن شركات أوروبية ستوقع اتفاقات بقيمة 40  مليار يورو بمصر. وسبق هذا صفقة مشابهة مع تونس تتضمن إعطاء الاتحاد الأوروبي لقيس سعيد، أكثر من مليار يورو لإنقاذ الاقتصاد التونسي، ومكافحة الهجرة غير الشرعية، ولكنه مشروط بتطبيق إصلاحات صندوق النقد، وأعلنت جورجيا ميلوني (رئيسة وزراء إيطاليا) عن دعمها لتونس في المفاوضات مع صندوق النقد. وأيضا كانت هناك صفقة في مايو الماضي، مع لبنان (الذي يتواجد به أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين والفلسطينيين) بقيمة مليار يورو أيضا لدعم الاقتصاد وتأمين الحدود.

محرك تلك الصفقات ما يطلق عليه فريق أوروبا المكون من فون دير لاين، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيس الوزراء الهولندي السابق مارك روته، الذين قادوا وسرعوا من إبرامها. ولقد عبرت ميلوني عن فخرها بدور إيطاليا بشكل خاص في التوصل للاتفاق مع مصر. وهنا الجدير بالذكر بأن ميلوني لعبت دورا محوريا في صعود اليمين في الانتخابات الأخيرة، حيث نجحت بتوحيد قوى اليمين المتطرف في الدول الأوروبية المختلفة الذين كانوا– ولا زالوا- دائمي الانقسام والتصارع.

تحالفات يمينية

قضية الهجرة تشغل جميع الأطراف الأوروبية، ولكن بالنسبة لليمين المتطرف فهي قضية أشد إلحاحا؛ نظرا لأن وعودهم ترتكز على وقف تدفق اللاجئيين. فلا يشغل اليمين المتطرف تردي أوضاع حقوق الإنسان وغياب الشفافية في دول مثل تونس أو مصر أو لبنان أو المغرب أو غيرها من الدول. فهم يكترثون بشكل أساسي بقدرة تلك الدول على تأمين الحدود، ومنع اللاجئين من الوصول للحدود الأوروبية. ولذلك اليمين المتطرف أكثر استعدادا للتعاون، وتوفير قروض ومساعدات، ليست مشروطة إلا بتحصين الحدود؛ لوقف وصول المهاجرين إلى الحدود الأوروبية. 

هناك تآلف واضح بين اليمين المتطرف الأوروبي والنظم السياسية غير الديمقراطية في المنطقة. وربما التناغم بين مصر واليمين المتشدد مثال بارز على هذا. رئيس وزراء المجر السابق فيكتور أوربان، المعروف بسياسته السلطوية ومواقفه اليمينية المتطرفة تجاه اللاجئين والأقليات الأخرى، شدد في عدة مؤتمرات صحفية في السنوات الماضية على أهمية مصر لاستقرار المنطقة ومدح سياسات الرئيس السيسي، في كبح الهجرة غير المنتظمة. كما قال الرئيس السيسي، إن العلاقة بين المجر تحت قيادة أوربان، ومصر مثال يحتذى به. أما ماري لوبان زعيمة اليمين المتشدد في فرنسا، اعتبرت أن الرئيس السيسي حليف طبيعي لفرنسا، وقالت إنها حثت الأمن الفرنسي على التعاون مع نظيره في مصر في مكافحة الإرهاب.

تمثل مصر بشكل خاص أهمية قصوى لأوروبا، فيما يرتبط بالهجرة، فبجانب اتصال الحدود المصرية بمسارات الهجرة غير النظامية، العدد السكاني الهائل وملاصقة مصر للحدود الأوروبية، يشكل مصدرا للتوجس في حال حدوث إضطرابات في الأوضاع الداخلية المصرية، أو لم تغلق السلطات المصرية الحدود بشكل واضح، وهذا ما يلوح به المسئولون المصريون للضغط على نظرائهم الأوروبيين في بعض المواقف.

المشهد ليس حالكا

ولكن البرلمان الأوروبي كهيئة ديمقراطية ليس كتلة متجانسة. يعترض اليسار والليبراليون داخل البرلمان الأوروبي على التعاون مع النظم غير الديمقراطية في الدول المجاورة. أعضاء من التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين، وتحالف الليبراليين والديمقراطيين؛ من أجل أوروبا انتقدوا الصفقات الاخيرة لتعارضها مع قيم حقوق الإنسان والديمقراطية، وشددوا على أن إبرام اتفاقات اقتصادية مع دول ذات سجل سيئ في حقوق الإنسان؛ لوقف الهجرة يناقض قيم الاتحاد الأوروبي.

فعلى سبيل المثال، اعتبرت كاتارينا بارلي، الصفقة مع تونس استراتيجية من اليمين لكسب الأصوات. ونيكولا شميت، شدد أيضا على معارضته للصفقة. وانتقد أعضاء مثل صوفي إينت فيلد، وماتجاه نيميك، الصفقة مع مصر لتعارضعها مع قيم الاتحاد الأوروبي.

وعلى الرغم من تزايد تأثير اليمين المتطرف في أوروبا، هناك أطراف أخرى تقدمية مناهضة لليمين، وتهتم بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية (بدرجات متفاوته باختلاف توجهاتهم ومواقعهم السياسية). وتلك القوى التقدمية تتبنى  سياسات أكثر انفتاحا على المهاجرين- والأقليات بشكل أعم- في أوروبا وتحمي حقوقهم. بالإضافة إلى أنهم ينظرون لأوضاع حقوق الإنسان الداخلية في الدول المجاورة نظرة جادة، ويأخذونها بعين الاعتبار. بالطبع مصالح الاتحاد الأوروبي لا تزال في قمة أولوياتهم، ولكنهم يناهضون عداء اليمين المتشدد للمهاجرين، ويرفضون، معادلة المال وتجاهل حقوق الإنسان، مقابل منع الهجرة التي ترتكز عليها علاقة اليمين الأوروبي مع النظم الاوتوقراطية في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

مباغتات يمينية ومفاجآت ديمقراطية

لحسن الحظ، لم ينجح اليمين المتطرف بتحقيق أغلبية في البرلمان الأوروبي. وعلى الرغم من أنه سيكون أكثر تأثيرا الفترة المقبلة، خاصة بتعاونه مع يمين الوسط (الذي لا يريد خسارة أصوات الأوروبيين القلقين من الهجرة) في سياسات الهجرة، ولكن هذا قد لا يغير الوضع القائم بشكل جذري نظرا للتوازنات الأخرى بين يمين الوسط واليسار والليبراليين.

ولكن يظل هناك تخوفات، بأن اليمين المتطرف قد يحصد مكاسب أكبر في انتخابات مستقبلية- على المستويين الأوروبي والمحلي- مما سيعني نفوذا أكبر على سياسات الهجرة والتهاون في مسائل حقوق الإنسان والديمقراطية في العلاقات، والشراكات مع الدول المجاورة. ولكن اليمين المتطرف ليس الفاعل الوحيد في السياسة الأوروبية، وصعوده ليس حتميا، فهناك قوى تقدمية تصارع اليمين، وتتبنى مواقف تتسق مع قيم حقوق الإنسان والديمقراطية في العلاقات مع النظم السياسية الأوتوقراطية وغير الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وفي ظل الديمقراطيات، هناك دائما مجال للنتائج غير المتوقعة، بعضها مباغت مثير للقلق، وبعضها مفاجئ وسار. ومؤخرا شهدنا مفاجأة مبشرة في الانتخابات التشريعية الفرنسية بفوز ائتلاف اليسار بالمركز الأول تحت زعامة جان لوك ميلانشون، في ضربة ساحقة لليمين المتطرف. وبرغم أن صعود اليمين المتطرف في أوروبا ينذر بالقلق؛ لأسباب عدة منها، مفاقمة انتهاكات حقوق الإنسان في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولكن يظل الرهان على أن الديمقراطيات قد تأتي أيضا بقوى تقدمية، يحركها انشغال بقضايا حقوق الإنسان والعدالة خارج وداخل أوروبا. وإن كان هذا لا يعني إضفاء طابع مثالي على تلك القوى، أو تحميلهم أكثر مما يحتملون، ففي نهاية المطاف حتى أشد السياسيين إيمانا بالعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، سيضطرون إلى القيام بتوازنات سياسية واجتماعية وتقديم بعض التنازلات، ولكنه يظل البديل الأفضل في مواجهة موجات اليمين المتطرف.